“طوفان حلب” يخترق “غلاف” روسيا وإيران

مدة القراءة 9 د

تحوّلت عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها “إدارة العمليات العسكرية”، لإبعاد إدلب وما حواليها، عن مدى نيران قوّات النظام السوري وحلفائه، إلى “طوفان حلب”. عملياً، ضمن هجوم صاعق وخاطف، وعالي التنسيق والمهارة، تمكّنت به المعارضة المسلّحة من دخول حلب، المدينة الثانية في سوريا، خلال أيام فقط، ومن دون قتال يُذكر، والسيطرة في الوقت نفسه على مدينة سراقب الاستراتيجية على الطريق الدولي بين دمشق وحلب.

انطلقت العملية يوم وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”الحزب”، في 27 تشرين الثاني، وهو ما رسم علامات استفهام عن التوقيت، والهدف، والدول الداعمة، وكأنّ المعارضة السورية بنظر حلفاء النظام تُكمل ما بدأته إسرائيل في لبنان وامتداداً إلى سوريا نفسها، فيما بدت تركيا في وضع الترقّب والاندهاش. فما هي وقائع هذا الهجوم؟ وما هي حيثيّاته، وسياقاته الإقليمية والدولية؟ وما هي آثاره الاستراتيجية؟

قبل الغوص في الأسباب والأهداف، لا بدّ من تلمّس حيثيات الانهيار السريع لقوات النظام وحلفائه، الذي أتى بعد حرب ضروس في لبنان لم توفّر فيها إسرائيل أيّ هدف أو قائد من قادة الحزب وكوادره في لبنان وسوريا، علاوة على اغتيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا. وهذا ما أدّى على نحوٍ متوقّع إلى سحب بعض القيادات الميدانية من سوريا لملء الفراغات في سلسلة التحكّم والسيطرة، عقب عاصفة الاغتيالات التي اشتدّت منذ 17 أيلول الماضي، بتفجير أجهزة البيجر ثمّ اللاسلكي.

تُضاف إلى ذلك الضغوط التي مورست على الرئيس السوري بشار الأسد للابتعاد عن حلفائه وعدم التورّط في تسهيل إعادة تسليح الحزب بعد وقف إطلاق النار. بل إنّ  نتنياهو هدّد الأسد قبل عملية “ردع العدوان” بدفع ثمن غالٍ فيما لو ظلّ على تحالفه الوثيق مع “الحزب”.

انطلقت العملية يوم وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”الحزب”، في 27 تشرين الثاني، وهو ما رسم علامات استفهام عن التوقيت، والهدف، والدول الداعمة

مدى الانهيار

لكن على الرغم من كلّ هذا، من الصعب تفسير مدى الانهيار الهائل الذي أصاب قوات النظام في شرق إدلب وغرب حلب، والذي تمظهر على شكل انسحابات غير مبرّرة، وانحياز أرتال مدرّعة من الجيش السوري إلى حلب نفسها، ثمّ منها إلى مدينة السفيرة شرق حلب، ومن السفيرة إلى حماة.

فما هو السبب وراء الافتقار الشديد إلى إرادة القتال عند أنصار النظام، وقوّاته، والميليشيات المتحالفة معه؟ هل هو بسبب انحسار الدعم الجوّي الروسي للجيش السوري، وقد استنزفت حرب أوكرانيا منذ شباط 2022 معظم الموارد الروسية في سوريا؟ أم هو الإنهاك الطارئ على قوّات “الحزب” التي كان لها الدور الأساسي في معركة احتلال حلب عام 2016، وفي قضم مناطق المعارضة في 2018 و2020، فانحصرت في مناطق محاذية لتركيا في الشمال والغرب، وهو ما دفع أنقرة آنذاك إلى التدخّل لوقف الهجوم الكاسح المدعوم من إيران وروسيا؟ أم هو الدعم التركي الخفيّ للمعارضة كي تحقّق هدفها الاستراتيجي بمحاصرة النفوذ الكردي في سوريا، وإعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلادهم؟

من الصعب تفسير مدى الانهيار الهائل الذي أصاب قوات النظام في شرق إدلب وغرب حلب

سياق الأحداث قبل هجوم المعارضة

منذ انطلاق الهجوم الإسرائيلي على غزة ردّاً على عملية حماس تحت عنوان “طوفان الأقصى”، وانضمام “الحزب” في 8 تشرين الأول من العام الماضي إلى الحرب، بشعار إسناد غزة، والنظام السوري وحلفاؤه في توجّس من إمكانية استغلال المعارضة السورية المسلّحة للموقف، وإطلاق عملية عسكرية لاسترداد بعض الأراضي التي خسرتها في السنوات الماضية.

لذلك اشتدّ القصف بشكل منتظم منذ بداية العام الحالي على مناطق المعارضة، وتحديداً في إدلب، وبحسب تقرير “منسقيّة استجابة سوريا”، فقد لوحظ التصعيد الناري من طرف النظام حتى قبيل الهجوم الأخير للمعارضة. فقد تعرّضت للقصف 57 منشأة وبنية تحتية في الشمال السوري، ومن ضمنها 10 مخيّمات ومراكز إيواء، بينما طال القصف 25 منشأة تعليمية، و8 منشآت طبّية، إضافة إلى 14 منشأة خدميّة أخرى تتنوّع بين محطات كهرباء ومياه وأسواق شعبية ودور عبادة، وسقوط عشرات الضحايا من المدنيين. وقد استخدم النظام إلى جانب الصواريخ والقذائف طائرات مسيّرة مفخّخة لإيقاع أكبر الأضرار الممكنة.

في مطلع تشرين الأول الماضي، شهدت مناطق التماسّ بين المعارضة والنظام في ريف إدلب الشرقي حركة نزوح للأهالي بعد تداول أنباء عن تجهيز النظام لعملية عسكرية جديدة

حركة نزوح كبيرة وتحذيرات

في مطلع تشرين الأول الماضي، شهدت مناطق التماسّ بين المعارضة والنظام في ريف إدلب الشرقي حركة نزوح للأهالي بعد تداول أنباء عن تجهيز النظام لعملية عسكرية جديدة على المنطقة، مع تعثّر كلّ محاولات المصالحة بين أنقرة ودمشق بوساطة روسية. وذلك بسبب إصرار تركيا على إيجاد حلّ سياسي، وهو ما ينصّ عليه القرار الدولي رقم 2254 لعام 2015، في حين أنّ الرئيس السوري رفض اللقاء بالرئيس التركي إردوغان قبل انسحاب الجيش التركي من سوريا.

في منتصف الشهر نفسه، راحت وسائل إعلام مرتبطة بهيئة تحرير الشام (HTS) تنشر تحذيرات للسكّان في بعض المناطق الواقعة قرب خطوط التماسّ لإخلاء بعض القرى، وتحدّثت تسريبات عن خطّة “الهيئة” وفصائل تحالف غرفة عمليات “الفتح المبين” لشنّ هجوم يهدف إلى السيطرة على مدينة حلب وانتزاعها من قبضة النظام.

تدنّت التوقّعات والأهداف، بعد ذلك إلى استعادة السيطرة على سراقب الواقعة على طول جبهة جنوب إدلب، أو التقدّم غرباً من الأتارب في ريف حلب الغربي. مع ذلك لم تظهر أيّ استعدادات حقيقية من قبيل حشد القوّات والآليّات. واعتبر معارضو الجولاني من الحراك الثوري والفصائل والمنشقّون عن هيئة تحرير الشام أنّ الكلام عن فتح الجبهة ضدّ النظام هو لإلهاء الناس فقط، وخاصة المعارضين منهم الذين يطالبون بإطلاق سراح المعتقلين في سجون “الهيئة” في إدلب.

كان التنظيم الأقوى، أي “هيئة تحرير الشام”، قد تعرّض لزلزال قويّ داخل صفوفه، في شباط الماضي، مع خروج أنباء عن محاولة انقلابية على الجولاني، وفضيحة تعذيب المعتقلين في السجون التابعة لتنظيمه، ووقوع انشقاقات داخل الجسم العسكري لـ”الهيئة” ، وهو ما أطلق حراكاً شعبياً يطالب بإسقاطه، استمرّت التظاهرات على مدى أشهر وبشكل تصاعدي، مع المطالبة بفتح الجبهة مع النظام.

لذا عندما تسرّبت الأنباء عن عملية وشيكة لاستعادة حلب أو سراقب لم يصدّقها أحد.

كان التنظيم الأقوى، أي “هيئة تحرير الشام”، قد تعرّض لزلزال قويّ داخل صفوفه، في شباط الماضي، مع خروج أنباء عن محاولة انقلابية على الجولاني

دور تركيّ في الهجوم؟

في السياق نفسه، هل يمكن أن تكون أنقرة وراء دفع المعارضة السورية الخاضعة إلى حدّ كبير لتوجيهاتها، لإطلاق هذه العملية الواسعة، لا سيما أنّ إردوغان صرّح قبل أكثر من أسبوعين على إطلاق “ردع العدوان” بأنّ تركيا ستقطع الروابط مع العناصر الإرهابية خلال المرحلة المقبلة وستنهي مكيدة الإرهاب القائمة منذ 40 عاماً، في إشارة منه لعملية عسكرية مرتقبة بشمال سوريا ضدّ الكيان الكردي الذي تسيطر عليه وحدات حماية الشعب الكردي؟

إلى ذلك أشارت وزارة الدفاع التركية إلى عزمها على القيام بالعملية العسكرية قائلة: “من أكثر الحقوق الطبيعية لتركيا القيام بعمليّات من حيث القانون الدولي والدفاع المشروع من أجل أمن الدولة وحدودها. سيتمّ اتّخاذ اللازم عندما يحين الموعد والمكان المناسبان”. لكنّ هذا الموقف قد تكرّر أكثر من مرّة، في السنوات المنصرمة، واصطدم بالمعارضة الأميركية، فهل كان الهجوم السوري المعارض للأسد هو الخيار البديل، إذ إنّ السيطرة على حلب تجعل تل رفعت ومنبج في دائرة الخطر، وتُعرّض دويلة الكرد للخطر؟

مع ذلك، بدا الأتراك وكأنّهم كانوا على علم بإطلاق عملية محدودة لإبعاد مدافع النظام عن إدلب، فإذا بالجبهة تنهار دفعة واحدة، والعملية المحدودة تنقلب إلى هجوم واسع النطاق، بما يهدّد النفوذين الروسي والإيراني في سوريا، وهو ما تُرجم بمواقف غاضبة من موسكو وطهران.

بدا الأتراك وكأنّهم كانوا على علم بإطلاق عملية محدودة لإبعاد مدافع النظام عن إدلب، فإذا بالجبهة تنهار دفعة واحدة

المصالح التّركيّة – الرّوسيّة – الإيرانيّة

في كلّ الأحوال، ترتبط تركيا بمصالح وعلاقات معقّدة مع كلٍّ من روسيا وإيران، ولا يمكن أن تؤيّد عملية استراتيجية من هذا النوع، تتولّى تغيير خارطة النفوذ بشكل جذري. فدخول مدينة كبرى مثل حلب في عهدة قوى المعارضة يخلّ بموازين القوى في البلاد، وليس ذلك لمصلحة النظام الذي لم يتمكّن حتى اليوم من استعادة سلطته كما كانت قبل الثورة الشعبية عام 2011 في المناطق التي استردّها في السنوات الفائتة بدعم قويّ من حلفائه. وإنّ سقوط حلب، وإدلب وحماة، يُعيد الأوضاع إلى أسوأ ما كانت عليه قبل التدخّل الروسي عام 2015، عندما كانت المعارضة في موقع قوّة، وكان النظام في موقع تعثّر.

أمّا الاحتمال الآخر، الذي لم يطرقه أحد بجدّيّة، وهو أنّ إدارة جو بايدن تعمل على تصفير الأزمات في المنطقة قدر المستطاع، قبل مجيء الإدارة الجديدة بقيادة دونالد ترامب. كانت البداية في وقف الحرب في لبنان، وثمّة محاولة لوقف الحرب في غزة.

إقرأ أيضاً: سوريا ضحيّة الأسد وتنافس روسيا وإيران وتركيا

الأهمّ من ذلك أنّ بايدن يتوجّس من تخلّي ترامب عن أوكرانيا، والاتّفاق مع بوتين، مع سحب القوات الأميركية من سوريا، وهو ما يجعل روسيا الدولة الكبرى المتفرّدة في إدارة الأزمة السورية. وربّما هجوم المعارضة على النظام قد وقع في لحظة دقيقة بين إدارتين متعارضتين، من أجل إضعاف روسيا وإيران في سوريا، أو استنزافهما في صراع دموي جديد يكون عقدة مستعصية أمام ترامب. يقال إنّ بايدن فوجئ بهجوم المعارضة، لكنه “فوجئ” قبل ذلك بأمور كثيرة وقعت في غزة وفي لبنان.

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

الشّيعة وقّعوا الاتّفاق… والرّئيس المسيحيّ سينفّذه

تاريخ لبنان الحديث حافل بالاتّفاقات والانقلابات عليها، لا سيما تلك التي أبرمت في زمن الانقسام الكبير الذي انفجر في السبعينيات، واستمرّ حتى التسعينات، حين استقرّ…

هل قتل “الحاج حمزة” نصرالله وصفيّ الدّين؟

من أوقَع السّيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفيّ الدّين في فخّ الاغتيال؟ هل استندَ الإسرائيليّون إلى خرقٍ بشريّ داخل “الحزب”؟ أم التقنيّة كانت هي السّبيل؟…

خمسة أيّام من “قصف” الهدنة: “الأمر” للعدوّ!

تتوالى الخروقات الإسرائيلية للترتيبات الأمنيّة المرتبطة بتطبيق القرار 1701، جنوب الليطاني وشماله وصولاً إلى صيدا وبعلبك، إلى حدّ التهديد بنسف هدنة الـ60 يوماً.  يحدث ذلك…

“الحزب” بعد الحرب: الولادة من “الخاصرة الأميركيّة”

أما وقد دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ منذ صباح 27 الجاري، ليشكّل حدّاً فاصلاً بين ما قبله وما بعده، ويدشّن مرحلة جديدة كليّاً،…