يستطيع ساسة لبنان أن يجدوا الديباجات الدبلوماسية المناسبة للتعامل مع ملف سلاح “الحزب”. وسواء مرَّ الأمر بحوار حول ما يسمّى “الاستراتيجية الدفاعية” أم من خلال آليّات أخرى، فإنّ النهايات يجب أن تكون واضحة بأنّ الهدف هو برمجة انتهاء وجود أيّ سلاح غير خاضع للدولة اللبنانية وحدها. وإذا ما يعمل “التشاطر” اللبناني على ادّعاء عدم فهم اتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان، يفترض بلبنان عدم انتظار أن يفهم من ما زال يعيش في زمن آخر.
تعبير “الاستراتيجية” هو بدعة محلّية خرجت بها المخيّلات نفسها التي رهنت السلاح بتحرير “المزارع” و”التلال” وأيّ زواريب يشتبه باحتلالها. والبدعة مفادها أن لا نقاش في مستقبل السلاح من دون التوصّل إلى استراتيجية. وطبعاً لا خروج لهذه الاستراتيجية من دون رضى ذلك السلاح. كان الأمين العامّ لـ”الحزب” يقول إنّه لا يمكن تسليم السلاح إلا لـ”الدولة العادلة”، وأمّا متى تصبح هذه الدولة عادلة، فذلك سؤال أفلاطونيّ سرمدي يوفّر للسلاح السقوف والأحضان إلى اللانهاية.
يستطيع ساسة لبنان أن يجدوا الديباجات الدبلوماسية المناسبة للتعامل مع ملف سلاح “الحزب”
فيما تمتّع “الحزب” بإلهاء اللبنانيين بحوار من أجل الاهتداء إلى تلك “الاستراتيجية”، كان يجرّ البلاد من وراء ظهر ذلك الحوار إلى حرب تموز 2006 و”7 أيار” 2008 وفرض بدعة “اتفاق الدوحة” على دستورهم. لاحقاً، وقبل أن يجفّ حبر “إعلان بعبدا” لعام 2012، اكتشفوا أنّ السلاح بات يفتك خارج حدود الجمهورية واستراتيجياتها الموعودة، وباتت له مهامّ وأدوار في سوريا واليمن وبلدان الخليج وبقاع الأرض البعيدة.
النّقاش يشرّع الخيار
القبول بحدّ ذاته بنقاش في “الاستراتيجية الدفاعية” يعني أنّ سلاح “الحزب” خيار شرعي يجوز التحاور معه. وإذا ما كان السلاح فرض قهراً ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” وتلطّى خلف كلمة “مقاومة” في دستور “الطائف” ليفرض نفسه في البيانات الوزارية البليدة، فإنّ السلاح بات ساقطاً، لا مجال للنقاش في نجاعته، ليس فقط بسبب الخسائر البنيوية التي أُنزلت به، بل بسبب ثبوت خيبته في الدفاع عن البلد ومنع الكارثة التي يعيشها هذه الأيام.
الحال أنّ الداعين إلى “الحوار” يأملون أن يساهم في إقناع “الحزب” بتسليم سلاحه إلى الدولة، وكأنّ أمر هذا السلاح قابلٌ للنقاش في عقائد “الحزب” ومبرّرات وجوده. فـ”الحزب” من دون سلاح لا يعود ذلك الحزب. و”الحزب” من دون خطاب الجهاد الدائم ضدّ الاستكبار لا يحفظ مبرّر بقائه. وفوق ذلك، التوهّم أنّ هذا السلاح هو مسألة محلّية يناقشها اللبنانيون فيما بينهم، لا يتّفق مع الواقع والمنطق وهويّة هذا السلاح وإمرته.
تعبير “الاستراتيجية” هو بدعة محلّية خرجت بها المخيّلات نفسها التي رهنت السلاح بتحرير “المزارع” و”التلال” وأيّ زواريب يشتبه باحتلالها
سلاح “الحزب” هو جزء من أوراق إيران في المنطقة التي تلعب بها وتناور في تداولها، ويمكن أن تتخلّى عنها، وفق همهمات الغرف المغلقة ومقايضات المصالح وصفقاتها. وعلى الرغم من أنّ منافذ هذا السياق قد تعني أن يتمّ الحوار مع طهران، كما سبق أن لمّحت شخصية وازنة مثل وليد جنبلاط، من الأجدى عدم التورّط بالارتهان لطهران في تقرير مصير سلاح يفترض أنّ القرار الأممي رقم 1701 بنسخته المحدّثة المشدّدة بات يعتبره خارج القانون وأحاله عدماً.
لم تنتهِ الحرب في لبنان قبل أيام من خلال مفاوضات ثنائية بسيطة بين لبنان وإسرائيل. ولم يقرّر الاتفاق إخلاء جنوب نهر الليطاني من سلاح “الحزب” ومقاتليه وفرض تنفيذ صارم للقرار الأممي “بكلّ مندرجاته” من خلال تفاهمات المتقاتلين. فُرض الأمر بقوّة الكارثة من جهة، وتدخّل دولي من جهة ثانية، بما يعبّر عن إرادة حازمة لفرض أمر واقع جديد وجعله قاهراً.
إذا ما يظهر أنّ نواب “الحزب” في البرلمان، ووزراءه في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، غير مطّلعين على مضمون الاتفاق في نصّه الإنكليزي، وغير مبالين بقراءة صفحاته السبع، فإنّ عرّابه المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين يؤكّد من خلال الإعلام اللبناني الناطق باللغة العربية أنّ الاتّفاق يشمل في قيوده وشروطه وقواعده كلّ لبنان وليس جنوبه فقط، بما يشير إلى أنّ “الحزب” بات فعلاً من دون سلاحه ولو كره الكارهون.
سلاح “الحزب” هو جزء من أوراق إيران في المنطقة التي تلعب بها وتناور في تداولها، ويمكن أن تتخلّى عنها، وفق همهمات الغرف المغلقة
سقوط السّلاح
قبل أيام أعلن علي لاريجاني، كبير مستشاري المرشد في إيران، أنّ “الحزب لم يستخدم أسلحة مهمّة بعد”. وهو في تصريحه صادق. فالإيرانيون أصحاب السلاح وآمروه. وفق ذلك لا يمكن أن يكون نقاش “الاستراتيجية الدفاعية” من أدوات اللعبة البيتيّة الداخلية في لبنان. وكما احتاجت إعادة الدولة، حصراً، إلى جنوب نهر الليطاني، إلى تدخّل دولي نافذ، فإنّ امتلاك تلك الدولة القوّة والقدرة على تنفيذ التزامات لبنان بالقرار الأممي واتفاق وقف إطلاق النار يحتاج إلى تثبيت أقدام الدولة في كلّ لبنان، وهو أمر يحتاج أيضاً إلى تدخّل دولي حازم.
بات سلاح “الحزب” ساقطاً وغير شرعي وفق مضمون نصّ الاتفاق وما بين سطوره، وهو اتفاق وافق “الحزب” عليه كلمة تلو أخرى. صحيح أنّ من المتوقّع أن تكون للحزب قراءته للنصّ واجتهاداته في تفسيره، لكنّ واجب الدولة أن تتقيّد بقراءة تكتشف فيها تقادم بدعة السلاح وانتهاء صلاحيّته.
إقرأ أيضاً: السّقف الرئاسي لبرّي و”الحيطان” للودريان
بكلمة أخرى، لا يستدرج الاتفاق كما القرار الأممي نقاشاً بشأن “الاستراتيجية الدفاعية”، بل يمنح لبنان واللبنانيين إعادة التعرّف على الدولة والدور الأساسي للجيش، وعبقرية الدبلوماسية، وبناء شبكة العلاقات الدولية المحصّنة للبلد.
لا يحتاج الأمر إلى نقاش داخل قاعات مغلقة، بل السير على خارطة طريق بسيطة شفّافة تعيد تشكيل السلطة، من خلال انتخاب رئيس يشبه المرحلة ولا ينتمي إلى أيّ مرحلة متخيّلة، وقيام حكومة لا وجود في بياناتها التأسيسية لثلاثيّات وبدع صارت، منذ اتّفاق أوقف الحرب وصادق لبنان عليه، منتهية الصلاحية، متقادمة السياق.
لمتابعة الكاتب على X: