تعود سوريا إلى الواجهة مجدّداً بالأحداث الأمنيّة في شمالها، بعد بدء سريان مفعول الهدنة في لبنان، التي سينشغل اللبنانيون بتنفيذها. وبينما تركّز الاهتمام على الهجمات الإسرائيلية ضدّ مواقع الأسلحة التي تنقل إلى “الحزب”، من وسط سوريا وجنوبها، جاء الحدث الأمنيّ من شمالها. فما علاقة الهجوم الذي شنّته “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) و”الجيش الوطني” الموالي لتركيا على غرب حلب، وبين الوجود الإيراني في سوريا؟
نتنياهو و”التّهديد الإيرانيّ” و”اللّعب بالنّار”
في شرحه أسباب موافقته على اتفاق وقف النار في لبنان في 26 تشرين الثاني، أشار بنيامين نتنياهو إلى نيّته “التركيز على التهديد الإيراني”. وقال أيضاً عن بشار الأسد إنّه “يلعب بالنار”. وهذا تحذير يشير إلى أنّ تل أبيب ستتشدّد أكثر تجاه دمشق وسماحها بتمرير الأسلحة الإيرانية إلى “الحزب”.
ينصّ اتفاق وقف النار مع لبنان في البندين السادس والسابع على “مراقبة حكومة لبنان أيّ مبيعات أو توريد أسلحة إليه”… تنفيذاً للقرار 1701، والمقصود هنا هي المعابر مع سورية.
كانت آخر عمليات القصف العنيفة للوجود الإيراني في سوريا قبل 5 أيام من إعلان الاتفاق حول لبنان، في تدمر وسط سوريا. أدّى ذلك إلى تدمير مخازن أسلحة للميليشيات العراقية الموالية لإيران وإلى مقتل أكثر من 100. وهم خليط من السوريين والعراقيين واللبنانيين التابعين للحزب.
بالتزامن مع إعلان اتفاق وقف النار في لبنان، استهدفت الطائرات الإسرائيلية للمرّة الثالثة المعابر بين البلدين من جهة بلدة القصير السورية. دمّرت جسوراً عدّة تربط البلدين. وقال المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي إنّ “الغارة استهدفت طرقاً استخدمها “الحزب” لنقل وسائل قتالية من سوريا إلى لبنان، وبدعم من السلطات السورية. وشمل التدمير نفقاً طويلاً”.
دفاع الجيش السوري عن مواقعه التي اجتاحتها “هيئة تحرير الشام” من إدلب، والجيش الوطني من مواقعها، افتقد إلى التغطية الجوّية
ما هدف هجوم الفصائل على غرب حلب؟
إلا أنّ الفوضى التي غرقت بها بلاد الشام على مدى السنوات جرّاء تعدّد الاحتلالات، تجعل صعباً فهم بعض المواجهات العسكرية فيها. فهي تشهد تضارباً في المصالح بين دول تتقاسم الميدان السوري.
جاء مفاجئاً الهجوم الذي شنّه مقاتلو “هيئة تحرير الشام” وفصائل “الجيش الوطني” واستهدف الجيش السوري والميليشيات الموالية لإيران، في الشمال نحو غرب حلب. وأدّى في 26 و27 تشرين الأول إلى مقتل أكثر من 250 مسلّحاً من الجانبين جلّهم من الجيش السوري والميليشيات الحليفة لطهران و”الحزب”. كما أدّى، تحت شعار “ردع العدوان”، لاحتلال ثكنات ومقرّات سورية وإيرانية، أهمّها الفوج 46 السوري.
برّرت الفصائل المعارضة هجومها بأنّه للردّ على قصف قوات النظام والميليشيات الإيرانية لإدلب بعنف منذ بداية الشهر الجاري. البارز في الحصيلة مقتل الجنرال كيومرث بورهاشمي بالحرس الثوري الإيراني، وهو مسؤول ملفّ الفصائل الموالية لطهران. علّق المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، على التطوّرات الميدانية في سوريا، محذّراً من “إعادة تفعيل الجماعات الإرهابية في سوريا”. وشدّد على “ضرورة يقظة وتنسيق دول المنطقة، خصوصاً جيران سوريا، لإحباط المؤامرة الخطيرة”.
اللافت أنّ الهجوم حصل بعد بضعة أيام على انعقاد الاجتماع الـ22 لصيغة أستانا بين روسيا وإيران وتركيا، الذي خرج ببيان حول أهميّة التعاون والتنسيق لحفظ مناطق خفض التصعيد.
لماذا تدعم تركيا الهجوم؟
استطلع “أساس” جهات عدّة حول خلفيّات ما حصل، فكان الآتي:
1- إنّ تركيا تقف خلف هذا الهجوم لأنّه لا يعقل أن تتحرّك فصائل “الجيش الوطني” التي أسّستها، من دون أوامرها. مع ترويج أنقرة بأنّ الفصائل شنّت الهجوم من دون علمها، تعدّدت الأجوبة حول هدفها:
تشير الأوساط المتّصلة بالدوائر الروسية إلى أنّ تركيا وجدت ذلك فرصة لملء فراغ هذه الانسحابات الإيرانية من غرب حلب فسهّلت هجوم الفصائل
– منها ما رأى أنّها ترمي إلى الضغط على الأسد لرفضه لأكثر من سنة جهود موسكو للمصالحة مع رجب طيب إردوغان. فالأخير يبغي إعادة مليون نازح سوري إلى بلدهم بالتنسيق مع النظام، والتخفيف من عبئهم السياسي والاقتصادي. كما يهدف لإرساء تعاون معه على إضعاف قوات “قسد” والميليشيات الكردية شرق الفرات. ويرفض شرط الأسد الاتفاق على جدول انسحاب تركي من الشمال.
– استرجع البعض الأطماع التركية بالسيطرة ولو غير المباشرة على حلب التي اقتربت الفصائل من حدودها 5 كيلومترات.
أين التّغطية الجوّيّة السّوريّة والرّوسيّة؟
2- إنّ دفاع الجيش السوري عن مواقعه التي اجتاحتها “هيئة تحرير الشام” من إدلب، والجيش الوطني من مواقعها، افتقد إلى التغطية الجوّية، سواء السورية أو الروسية، حيث لم يتدخل الطيران السوري والروسي إلّا بعد يومين.
وهو ما طرح لدى بعض الجهات السورية المحايدة السؤال عمّا إذا كانت موسكو غضّت النظر عن الهجوم. انطلقت التكهّنات في هذا الصدد من أنّها غاضبة من الأسد لمعاندته طلبها المصالحة مع إردوغان. وتلومه على استخفافه بإلحاحها عليه تسهيل عقد اجتماعات اللجنة الدستورية لمباشرة الحلّ السياسي وفق القرار الدولي 2254. كما سبق أن طلبت إليه وقف تهريب السلاح لـ”الحزب” في لبنان. فموسكو اتّفقت مع الجانب الإسرائيلي على بذل الجهد لوقف خطّ الإمداد لـ”الحزب” من سوريا إلى لبنان.
تحضير للتّفاوض مع ترامب والأسد في موسكو؟
لكنّ الموقف الروسي خضع لتفسيرات عدّة:
– إنّ موسكو تريد إعادة الأسد إلى بيت الطاعة ومعالجة بعض الالتباسات حول مدى نفوذها في بلاد الشام قياساً إلى دور إيران. فالهجوم يضعفه ويجبره على اللجوء إليها. وهي تعمل على الإمساك بالميدان السوري لتحصين أوراقها التفاوضية مع إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب. فالتفاوض الذي ينويه فلاديمير بوتين حول وقف حرب أوكرانيا يحتاج إلى تمتين أوراقه…
اعتبر الكرملين وفق المتحدّث باسمه أندريه بيسكوف أنّ ما جرى انتهاك لسيادة سوريا وأنّه يدعم استعادة السلطات السورية المناطق التي تمّ الاستيلاء عليها
– تسرّبت معلومات عن أنّ بشار الأسد انتقل الأربعاء أو الخميس الماضي إلى موسكو على عجل لبحث الأمر مع القيادة الروسية. وإذا صحّ ذلك تكون الزيارة الثانية، سرّاً، خلال 3 أسابيع. إذ زار موسكو سرّاً قبلها بعد تلقّيه تهديدات إسرائيلية باستهداف النظام إذا واصل تسهيل تهريب الأسلحة لـ”الحزب”. لكنّ مصادر متابعة لفتت إلى أنّه ينتقل إلى روسيا لتفقّد السيّدة الأولى أسماء الأسد التي تخضع هناك للعلاج من السرطان.
– ذهبت قراءة مراقبين سوريين إلى حدّ اعتبار ما قامت به أنقرة استباقاً لتسلّم الرئيس المنتخب دونالد ترامب الرئاسة. تقول هذه القراءة إنّ إردوغان يعزّز موقعه التفاوضي حيال مطلبه إضعاف الدور الكردي في شمال سوريا الذي تدعمه واشنطن. يستند أصحاب هذه القراءة إلى أنّ ترامب قد لا يعود إلى خيار سحب القوات الأميركية (قواعدها الرئيسة في المناطق الكردية). وهذا يتطلّب من أنقرة وموسكو، كلّ لهدفها، التهيّؤ لمرحلة الرئيس الأميركي الجديد.
موسكو تستفسر… وطهران منزعجة
سرعان ما جاء جواب مختلف من أوساط متّصلة بالدوائر الروسيّة تحدّثت عن بعض المعطيات عن الهجوم الأخير وعن أنّ موسكو لم تكن على علم به، وأنّها اتّصلت عند بدايته بأنقرة مستفسرة. كان ردّ الأخيرة بأن لا تغيير على الأرض بل حفاظ على مناطق “خفض التصعيد” المتّفق عليها منذ 2019. وتقول هذه الأوساط إنّ الجانب الروسي يعتبر أنّ الجانب التركي لم يصدقه القول. ولذلك اعتبر الكرملين وفق المتحدّث باسمه أندريه بيسكوف أنّ ما جرى انتهاك لسيادة سوريا وأنّه يدعم استعادة السلطات السورية المناطق التي تمّ الاستيلاء عليها.
تعود سوريا إلى الواجهة مجدّداً بالأحداث الأمنيّة في شمالها، بعد بدء سريان مفعول الهدنة في لبنان، التي سينشغل اللبنانون بتنفيذها
ممّا قالته هذه الأوساط أنّ طهران سحبت جزءاً من مقاتلي الميليشيات الموالية لها وأذرعها، ومقاتلين من “الحزب” إلى الجنوب السوري، أي إلى مواقع قريبة من الحدود مع إسرائيل في محافظة القنيطرة، شمال الحدود مع الجولان المحتلّ. فهل سعى الحرس الثوري إلى التعويض عن اضطراره إلى إجازة موافقة “الحزب” على وقف النار في لبنان بتمتين وجوده على الجبهة مع إسرائيل في سوريا، وهو أمر يخالف تطمين موسكو لتل أبيب بتسييرها دوريات للشرطة العسكرية الروسية في القنيطرة؟
تشير الأوساط المتّصلة بالدوائر الروسية إلى أنّ تركيا وجدت ذلك فرصة لملء فراغ هذه الانسحابات الإيرانية من غرب حلب فسهّلت هجوم الفصائل.
إقرأ أيضاً: موسكو استدعت الأسد سرّاً وطهران على باب روسيا والسعودية..
في كلّ الأحوال صرّح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي بأنّ ما يجري في ريفَي إدلب وحلب مخطّط أميركي – إسرائيلي. ويشي انزعاج طهران بأنّ ما يجري يمسّ بالدور الإيراني في بلاد الشام، في سياق تنافس الاحتلالات فيها على تحصين مواقعها.
لمتابعة الكاتب على X: