بلى ثمّة أزمة. بلى لدينا مشكلة. وقد تكون كبيرة وخطيرة.
مشاهد عدّة مسجّلة في بيروت خلال أسبوع، تختصرها وترسم لها مشهداً دقيقاً جدّاً.
مشهد أوّل: قبل أيام وردَ كلام إعلامي عن وقائع ثابتة ومثبتة. تقول إنّ غالبية شهداء الجيش اللبناني منذ 8 تشرين الأول 2023، سقطوا وهم يحاولون إنقاذ مصابين من عناصر “الحزب”.
فجأة جُنّ جنون جيوش منصّات التذابح الإلكتروني. ومن الطرفين المتناقضين معاً.
غلاة مناصري الممانعة هالهم أن يكون الجيش اللبناني قد أنقذ “حزبيّين”. الفكرة بحدّ ذاتها تهدم سرديّتهم المحشوّة في جماجمهم عن أنّه “جيش من صنيعة الاستعمار”، وأنّه “وجد لخدمة مصالح المستعمِرين لا اللبنانيين”، وأنّ “مهمّته حماية النظام لا حماية شعبه”… إلى آخر معزوفة الغسل الدوغماتي حقداً على كلّ ما يرمز إلى لبنان.
طبعاً استفظعوا أكثر أن يكون هناك مصابون في صفوف “الحزب”، فيما هم يؤمنون أنّ الكيان أزيل كلّياً، من دون جرح لبناني واحد، ولا سقوط حجر واحد.
في المقابل خصوم “الحزب” جُنّ جنونهم أيضاً. هالهم أن يساعد الجيش “مسلّحي الحزب”. اللامُقال في تصوّراتهم أنّه كان عليه أن يتركهم لمصيرهم بمواجهة العدوّ. لا بل أن يتركهم ربّما العالم كلّه للمقتلة والتهلكة.
مشهد أوّل لناسَيْن اثنين يعيشان معاً. الآن هنا. ويفترض أن يتعايشا معاً في لبنان واحد لا لبنانين.
الإنكار المتبادَل
مشهد ثانٍ: هذا الأسبوع أيضاً، في مصادفة معبّرة جدّاً، في اليوم نفسه، كتب زميلان في صحيفتين متعارضتين مقالين بعنوان واحد، لكن باتّجاهين متصارعين بالمطلق.
قبل أيام وردَ كلام إعلامي عن وقائع ثابتة ومثبتة. تقول إنّ غالبية شهداء الجيش اللبناني منذ 8 سقطوا وهم يحاولون إنقاذ مصابين من عناصر “الحزب”
الزميل “الرفيق” إبراهيم الأمين، وتحت عنوان “نعم نحن لا نشبهكم”، كتب في جريدة “الأخبار” عن الذين “يُعادون المقاومة، ويرفعون اليوم شعار نزع السلاح”، ذاهباً إلى أنّ “هؤلاء، بصراحة ومن دون مُواربة، لا يشبهوننا أبداً. وحقيقةً، يجد المرء صعوبة في مجرد التفكير أنّه يعيش معهم في هذا البيت اللبناني”، وداعياً إلى أن “نكون صريحين إلى أبعد الحدود بالقول إنّه سيكون من الصعب التعايش مع هذه الفئة من البشر”، خاتماً بالقول: “صحيح مئة في المئة: أنتم لا تشبهوننا. والصحيح أكثر، هو أنّنا لا نشبهكم، ولا نُريد أن نكون على هيئتكم”!
كلام مفهوم إذا ما اعتبرنا أنّ هناك فعلاً لبنانيّين ينطبق عليهم ذاك التصنيف.
في اليوم نفسه كان الزميل “الرفيق” عماد موسى يكتب في صحيفة “نداء الوطن” عموده تحت عنوان “ما بيشبهونا” عن ذلك الشخص الذي ظهر في فيديو منتشر فيروسيّاً، وهو يعلن استعداده لتفخيخ طفله الرضيع ذي الأشهر السبعة لضرب العدوّ به “إذا بدّو الشيخ نعيم”.
تأمّل الكاتب في المنظومة الدوغماتية التي تنتج كلاماً كهذا ولو ظلّ عند حدّ الكلام، متسائلاً عن “المساحة المشتركة بين المتباهين بالعلماء اللبنانيين وبالموسيقيين وبعباقرة الذكاء الاصطناعي وبالجرّاحين والعاملين في قطاعات الخدمات… وبين الفخورين بقامات علمية تعمل فقط في مجال تطوير الصواريخ والألغام وصناعة المسيّرات وحفر الأنفاق في الأحياء والقرى”، فكيف بمفخّخي أطفالهم الرضّع، خاتماً بسؤال “أولي العقول” عمّا إذا كانت عبارة “هؤلاء ما بيشبهونا”، “تصلح لحالات أخرى”؟
كلام صحيح في المقابل أيضاً إذا كان شخص الفيديو المقصود صالحاً للتعميم على جماعة، أو منظومة محدّدة لقولبة العقول.
مشهد ثالث: من الأسبوع المنصرم نفسه. علي لاريجاني، كبير مستشاري خامنئي وزائرُ مطار رفيق الحريري الدولي مباشرة من الطائرة إلى السفارة، بلا سلطات لبنانية رسمية ولا من رآه، لأنّه “مش قاشع حدا”، كما روى هو شخصيّاً، بشرّنا قبل أيام بأنّ ترسانة “الحزب” سيُعاد تكوينها بشكل أو بآخر.
ثلاثة مشاهد تشي بأنّنا أمام مشكلة عميقة، وأنّ تداعياتها قد تتخطّى مفاعيل عدوان إسرائيل
ثلاثة مشاهد لمحطّتَين
في اللحظة نفسها، كان مسؤول كنسيّ مجتمعاً مع مسؤول حكومي لبناني في إطار عمل مجموعة ناشطة تنمويّاً. انتهى الاجتماع وكاد المشاركون يهمّون بالمغادرة، حين قال المسؤول الكنسي للضيف الحكومي: “لديّ كلام أخير لكم، مع التمنّي الشديد بنقله حرفيّاً إلى حكومتكم. إذا انتهت هذه الحرب بتسوية لا تقدّم حلّاً جذرياً ونهائياً لقضية سلاح “الحزب”، أقول لك منذ الآن إنّنا ككنيسة سنكون ضدّها. وسندعو كلّ الناس في لبنان وخارجه إلى عدم دفع قرش واحد في تركيبة معرّضة بأيّ لحظة لقرارٍ عشوائي بتدمير بلد كامل يتّخذه شخص أو طرف من خارج الدولة أو من خارج لبنان!”
ثلاثة مشاهد تشي بأنّنا أمام مشكلة عميقة، وأنّ تداعياتها قد تتخطّى مفاعيل عدوان إسرائيل.
مشكلة علينا أن ننتظر لاستشراف مؤدَّياتها محطّتين اثنتين:
المحطّة الأولى: انتخاب أيّ رئيس للجمهورية، رئيس دمية عاجز عن الحلّ أو رئيس إنقاذي سيادي تصالحيّ بحجم قضية ووطن؟!
المحطّة الثانية: لحظة تشييع السيّد حسن نصرالله، شكلاً ورسائل وخطاباً.
فهل تكون مطابقة لكلام دولة الدولة، على لسان نبيه برّي قبل يومين، عن وحدة اللبنانيين وأولوية إنقاذ لبنان، فيما شاشته ترفع في زاويتها العليا شعار الإمام الصدر عن لبنان وطناً نهائيّاً؟!
أم يكون التشييع – المحطّة شيئاً مشابهاً لتشييع الوجود العسكري السوري قبل 19 عاماً؟
إقرأ أيضاً: هل تدركون ماذا يعني 1 تشرين الثاني الآن؟
هل نستبدل “شكراً سوريا” بشيء من “شكراً خامنئي” مثلاً، فنعيد افتعال انقسام اللبنانيين على دم السيّد الشهيد، كما حصل في 8 آذار 2005، فوق دم رفيق الحريري؟
أما بعد، يوم خاضت مصر حرب 6 أكتوبر 1973 المنصورة فعلاً وأرضاً، نُسب إلى شاعر دراويش القاهرة، أحمد فؤاد نجم، قوله ذاك البيت الذائع: “يا خوفي يوم النصر / نكسب سينا ونخسر مصر”!
بعد أكتوبر غزة ولبنان المدمّرين المرمّدين، أيّ يوم ينتظرنا، ونحن لم نكسب “سيناءنا”، وخوفنا كبير على خسارة باقي أمصارنا اللبنانية؟!
لمتابعة الكاتب على X: