كلّما زار آموس هوكستين بيروت في الأشهر الماضية، كان المسؤولون اللبنانيون وبعض المتّصلين به من السياسيين يسرّبون بأنّها “الفرصة الأخيرة”. لكنّه ما يلبث أن يعود، على وقع ارتقاء التصعيد العسكري الإسرائيلي إلى مرتبة جديدة من التدمير والدمويّة. وفي كلّ مرّة يعود، يقال إنّ رئيس البرلمان نبيه برّي سينهي نصوص “المسوّدة” التي كان أنجزها معه في زيارته السابقة.
هكذا دواليك، منذ 8 تشرين الثاني 2023. أمام هوكستين 55 يوماً قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض. وهي المدّة الممكنة كي يتفوّق على وزير خارجية بلاده أنتوني بلينكن بعدد زياراته العشر للمنطقة من دون تمكّنه من وقف الحرب على غزة. الفارق قد يكمن في أنّه إذا كان ترامب جادّاً ولا يناور في طلبه وقف الحرب في لبنان، فإنّ نتنياهو سيذعن حتماً لطلبه.
تقوم الفلسفة الإسرائيلية للسعي الأميركي إلى وقف النار في لبنان على الآتي: كلّما قامت القوات الدولية “اليونيفيل” والجيش اللبناني بجهد أكبر لتنفيذ القرار 1701، نفّذ الجيش الإسرائيلي عمليات عسكرية أقلّ. ثبت أنّ هذه المعادلة مطّاطة جدّاً، من خلال تفاصيل العراقيل التي تظهر في كلّ جولة تفاوض قام بها هوكستين.
المفهوم الإسرائيلي للقرار الدولي يقضي بإنهاء عسكرة “الحزب”، كي يطمئنّ قادة الدولة العبرية إلى أنّ إيران لن تستخدم “الميدان” اللبناني ضدّها لعقود مقبلة. ومن الطبيعي في هذه الحال إصرار تل أبيب وأميركا على منع تهريب السلاح الإيراني إلى الحزب عبر الحدود اللبنانية السورية، بتطبيق القرارين الدوليَّين 1559 (نزع سلاح الميليشيات) و1680 (ترسيم الحدود مع سوريا وضبطها).
الفرص الضّائعة والسّرديّة الإلهيّة
“الحزب” فوّت فرصاً خلال 11 شهراً، برفضه فصل حرب “الإسناد” جنوباً عن حرب غزة، وبصدّه الاقتراحات المتكرّرة لهوكستين والخارجية الفرنسية أن ينسحب مقاتلوه بعمق 8 كيلومترات من الحدود. كانت المطالب الإسرائيلية والأميركية متواضعة في حينه.
هناك من يقول إنّ الأمين العامّ الراحل حسن نصرالله تنبّه ولو متأخّراً إلى سوء التقدير الإيراني، وتحديداً حين وافق مع بري على القبول بوقف النار
لكنّ هذا الرفض، في الأشهر الأولى للحرب، كان ملائماً لإسرائيل التي بدأت تحضّر منذ نهاية حرب 2006 للانتقام من محدوديّة نتائجها. وقد غفلت طهران ومعها “الحزب” عن مدى عمق وجدّية هذا التحضير. هدف إسرائيل كان قلب صورة “الانتصار” التي اعتمدها “الحزب” منذئذٍ. فالأخير غرق، بحكم الولاء الغيبي والديني لطهران، في سرديّة المزج بين الإيمان بالانتصار الإلهيّ وبين عمليات التسليح والإعداد العسكري والتدريب الإيرانية.
هذا جعله يركن إلى ما سمّي “قواعد الاشتباك” التي لم تكن موجودة إلّا في مخيّلة قادته، وفي حسابات إيران، لا عند إسرائيل وأميركا.
قرار نصرالله “المستقلّ”؟
سيطرت على عقل القيادة الإيرانية أوهام إمساكها بقرار أربع عواصم عربية وشعار “وحدة الساحات”، معتقدةً بأنّهما يكفيان لردع إسرائيل. جاءت النتيجة معاكسة. بل أسقطت “الحزب” في فخّ الاطمئنان إلى تقويم الحرس الثوري بأنّ التهديد بمحو إسرائيل سيحول دون حربها عليه.
هناك من يقول إنّ الأمين العامّ الراحل حسن نصرالله تنبّه ولو متأخّراً إلى سوء التقدير الإيراني، وتحديداً حين وافق في 23 أيلول الماضي مع رئيس البرلمان نبيه بري على القبول بوقف النار بمعزل عن وقف حرب غزة. وثبت أنّ موافقة حسن نصرالله هذه جاءت من دون إعلام طهران بها، إذ لم تخفِ أنّها فوجئت بها. وهذا يؤكّده لـ”أساس” أحد المسؤولين اللبنانيين.
من أسباب استقلال نصرالله المفترض في قراره في حينه، ضغوط الميدان وخسائر موجة تفجير البيجر وأجهزة اللاسلكي (في 17 و18 أيلول) واغتيال القياديَّين العسكريَّين فؤاد شكر وإبراهيم عقيل. وهذه خسائر سبقها مسلسل اصطياد الكوادر وقادة “الرضوان”، في الجنوب وغيره. هذا علاوة على استفظاعه الدمار الذي لحق بالقرى الجنوبية الحدودية وتراكم أزمة النزوح، وخشيته من أن تتضاعف الخسائر، كما هو حاصل الآن، إضافة إلى الانقسام الداخلي حول الحرب.
تقصّدت إسرائيل تعظيم إمكانات “الحزب” العسكرية، بالإكثار من الترويج لتزويده طهران صواريخ بالستية، وتصنيعه إيّاها وحيازته الدقيقة منها
مسؤوليّة إيران…”مهما كانت الكلفة”
إنّ بعض المتابعين لأحوال “الحزب” يقولون إنّ بعض قادته يعتبرون ضمناً أنّ التطمين الإيراني المفرط إلى القدرات الردعية لمحور الممانعة ساهم في التضحية بحياة نصرالله. إضافة إلى ذلك، يزداد الشعور عند بعض جمهور المقاومة بأنّ طهران تركتها تواجه الآلة العسكرية وحيدة. وهو ما دفع خامنئي إلى التأكيد في رسالة للشعب اللبناني الأسبوع الماضي: “ألمكم هو ألمنا، ومعاناتكم هي معاناتنا، ونحن لسنا منفصلين عنكم. نحن معكم. نحن وأنتم واحد”.
هذه المعطيات وفق بعض الأوساط هي التي تفسّر قول برّي في رثائه لنصرالله: “… كسرني الرحيل بشهادتك”… فبرّي بذل جهداً متواصلاً منذ 8 تشرين الأول 2023 لثني نصرالله عن حرب الإسناد التي لم يكن يخفي عدم اقتناعه بها منذ البداية. كما أنّ هذا ما يفسّر قول الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط إنّه كان هناك السيّد نصرالله نستطيع أن “نتحاور معه”، أمّا الآن فإنّ إيران هي التي تدير “الحزب” مباشرة.
شعر برّي وجنبلاط أنّ طهران لن تأخذ في الاعتبار الحاجة اللبنانية الملحّة إلى وقف الحرب، وفق تشدّدها بإعلان خامنئي أنّ “مصير هذه المنطقة ستقرّره قوى المقاومة”. فهو قال أمس: “أؤكّد أنّ جبهة المقاومة، مهما بلغت من اتّساعٍ اليوم، فإنّ هذا الاتّساع سيتضاعف مرّات عدّة غداً”.
يستوي في هذا السياق حديث الأمين العامّ للحزب الشيخ نعيم قاسم قبل أسبوع عن “حرب استنزاف على العدوّ الإسرائيلي، لأنّه ليس لدينا إلا قرار واحد: الصمود والاستمرار ولو طال الزمن”. وإذ أقرّ بخضوع “الحزب” أيضاً للاستنزاف، أضاف: “نحن نتحمّل الاستنزاف لأنّنا ندافع عن أرضنا، وسنقاتل مهما ارتفعت الكلفة. وسنخرج أقوى لأنّنا صمدنا وضحّينا وأعطينا ولم ندع العدوّ يحقّق أهدافه”.
يذهب بعض المسؤولين العرب إلى حد التشكُّك في نيّة نتنياهو القضاء على قدرات “الحزب” العسكرية
تعظيم نتنياهو إمكانات “الحزب”
مقابل تفويت الفرص السابقة، لم يكن نتنياهو ليفوّت فرصة ضرب “الحزب”، كأداة لإيران، بحجّة إنهاء التهديد الذي يمثّله لأمن شمال الدولة العبرية. هذا مع أنّ هدفه بات يتجاوز ذلك إلى أهداف متحرّكة تتدرّج وتظهر وفق ملاءمة الظروف. ساهمت الدعاية الإسرائيلية في تضخيم قدرات “الحزب” وإمكاناته الصاروخية وحجم المساعدة التي تقدّمها له طهران، لاستدراج الدعم الغربي.
كان ذلك على طريقة علف الذبيحة قبل الانقضاض عليها، كما حصل بعد عملية “طوفان الأقصى” مع “حماس” باختراع روايات قطع رؤوس الأسرى والاغتصاب وحرق الأطفال عند اختطاف الرهائن. وهي روايات كشفت صحيفة “هآرتس” عدم صحّتها.
تقصّدت إسرائيل تعظيم إمكانات “الحزب” العسكرية، بالإكثار من الترويج لتزويده طهران صواريخ بالستية، وتصنيعه إيّاها وحيازته الدقيقة منها. وقد يكون ساهم التخويف منها في تنامي شعور طهران و”الحزب” بالاعتداد بالنفس. وبثّ ذلك الشعور بالتفوّق لدى جمهوره ومناصريه. هذا علاوة على استفادته من اعتداءات أذرعها على دول الخليج لتوسيع قاعدة النقمة الدولية والعربية.
تنقّلت الأهداف الإسرائيلية بين ضمان عودة مستوطني الشمال، بسحب قوات “الحزب” من جنوب نهر الليطاني، إلى تدمير بنيته العسكرية التحتية، مروراً بتجريده من السلاح في شمال الليطاني عبر إقفال المعابر مع سوريا، وصولاً إلى تغيير الشرق الأوسط انطلاقاً من لبنان… وضرب منشآت البرنامج النووي الإيراني.
تشكُّك في نيّة القضاء على القدرة العسكريّة
لكنّ المؤكّد أنّ بين أهدافه الثابتة تأجيج الخلافات اللبنانية الداخلية التي تصاعدت بفعل اشتداد الحرب بين الحزب ومؤيّديه وبين معارضيه. ومن نتائج التدمير والقتل العشوائيَّين، تأليب فرقاء لبنانيين على “الحزب”.
يذهب بعض المسؤولين العرب إلى حد التشكُّك في نيّة نتنياهو القضاء على قدرات “الحزب” العسكرية، حتى يبقى عنصراً مساعداً على زيادة الانقسام اللبناني الداخلي. باعتقاد المتشكّكين أنّه مع استمرار اليد الإيرانية ممدودة بالدعم، وغياب الرؤية الوطنية للملمة البلد، قد تكتفي إسرائيل بنزع أنياب “الحزب” جنوباً، والإبقاء على السلاح بيده شمالاً. وهو الأمر نفسه الذي تمارسه على الصعيد الفلسطيني.
لم يكن نتنياهو ليفوّت فرصة ضرب “الحزب”، كأداة لإيران، بحجّة إنهاء التهديد الذي يمثّله لأمن شمال الدولة العبرية
أمّا مصير ورقة هوكستين الذي يتأرجح بين التفاؤل الإعلامي اللبناني والإسرائيلي، وبين تصعيد اليومين الماضيين الميداني واتّساع رقعة تبادل القصف في العمق، باستخدام “الحزب” صواريخ جديدة وإصابة أهداف مدنية وحيوية، فلا يتّصل فقط بكسب نتنياهو الوقت حتى دخول ترامب في 20 كانون الثاني، وإنّما بمحطّة أخرى قريبة.
إقرأ أيضاً: وقف النّار: خِدَع أميركا ومناورات إسرائيل وإيران؟
يوم الجمعة المقبل، يُنتظر أن يجتمع نوّاب وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا (الترويكا الأوروبية) والاتحاد الأوروبي وإيران في جنيف لبحث برنامج الأخيرة النووي. إلّا أنّ الخارجية الإيرانية أعلنت أنّ المحادثات ستتناول قضايا إقليمية، ومنها الحرب حتماً. فهل تُفتح نافذة لمصلحة وقف النار، إذا أزيلت تفاعلات الضغوط السابقة على طهران، قبل تنصيب ترامب؟
لمتابعة الكاتب على X: