معالي الدكتور طارق متري المحترم،
قرأت مقالك الأخير، بعنوان: “ليست الحرب على لبنان خسارة لفريق وربحاً لآخر”، في موقع “المدن”، بإعجاب تجاه دعوتك للوحدة والمصالحة في ظلّ المأساة التي يعيشها لبنان. إنّ دعوتك لتجاوز الانقسامات الداخلية وأوهام الغلبة المستعجلة وبناء الثقة لحماية الوطن تعبّر عن تطلّعات كثير من اللبنانيين. بيد أنّ دعواك التصالحيّة، على الرغم من نبلها الأصيل، تتجنّب مواجهة الحقائق السياسية الصعبة والتحدّيات البنيوية التي بها تستمرّ أزمات لبنان.
أشرتَ إلى أنّ لبنان ليس مجرّد ساحة لحروب الآخرين، بل إنّ اللبنانيين أطراف فاعلة في النزاعات التي خاضوها في الماضي ويخوضونها اليوم. وقلت إنّ “الحرب على لبنان ليست مجرّد صراع بالواسطة يهدف إلى القضاء على الحزب من حيث هو أبرز وكلاء إيران”.
إنّ هذا التشخيص، على الرغم من دقّته بالنسبة لأحداث تاريخية عاشها البلد في حقب مضت، يتغاضى، فيما يعنينا الآن، عن حقيقة أعمق، وهي أنّ ميليشيا الحزب تقدّم نفسها كامتداد مباشر لمشروع إقليمي يقوده الوليّ الفقيه، وتفخر بأنّها واحدة من كتائبه المنتشرة في المنطقة. وعليه فإنّ تأطير دور الحزب في الحرب الحالية كوكيل إيراني، ليس “سرداً غربيّاً” بل واقع يتبنّاه الحزب نفسه قبل أن تبرزه أفعاله الأمنيّة والعسكرية. وعليه فإنّ الخلط المستعجل بين أنّ هذه الحرب هي ضدّ الحزب، وبين أنّها ضدّ لبنان ككلّ، يقود إلى الخلط بين مصالح الحزب ومصالح اللبنانيين، ويعفي الحزب من مسؤوليّته عن اتّخاذ قرارات أحادية جرّت لبنان الآن وفيما مضى إلى ما لا يريده معظم اللبنانيين.
ميليشيا الحزب تقدّم نفسها كامتداد مباشر لمشروع إقليمي يقوده الوليّ الفقيه
هزائم البعض… انتصارات الآخرين
ينبع هذا الخلط من مغالطة أكثر عمقاً في تفسير العلاقة بين إسرائيل ولبنان ضمن سياق أوسع للصراع العربي الإسرائيلي، مع ما يستدعيه ذلك من مزج بين أجندة إسرائيل تجاه الفلسطينيين وبين ديناميّات صراعها مع دول أخرى، بما في ذلك لبنان. ففي حين أنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بات يتّخذ طبيعة وجودية لدى الجانبين حول الأرض والهويّة والحقوق والسعي المتبادل للتصفية، فإنّ خلافات إسرائيل مع دول كلبنان هي خلافات قائمة على التنافس الجيوسياسي والأمني والسياسي والاقتصادي، وتُحلّ عبر ترتيبات أمنيّة أو تفاهمات سياسية.
أمّا طرحكم بشأن أنّ خسارة فريق ليست مكسباً لآخر في المعادلة اللبنانية، وإن كنت أؤيّده من الناحية النظرية، فإنّه يصطدم بواقع لبناني مختلف، حيث تحوّلت انتصارات الحزب الجزئية إلى خسارات كبرى لكلّ مرتكزات العيش المشترك، وهزائم مكتملة لمنطق الدولة والمؤسّسات. هذا ما شهدناه بعد حرب 2006، حين استثمر الحزب نتائج المواجهة مع إسرائيل لتكريس هيمنته الداخلية وفرض أمر واقع بقوّة السلاح. تلك “الانتصارات” المزعومة وُظّفت لتحصين مشروعه الخاصّ، بدءاً من تعطيل المؤسّسات الدستورية، واحتلال وسط بيروت وتدمير نسيجه الاقتصادي، مروراً باغتيالات طالت رموزاً وطنية، وصولاً إلى انقلاب فعليّ على نتائج الانتخابات النيابية وإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري عبر تفعيل غلبة السلاح داخل تركيبة مجلس الوزراء المفخّخ بالثلث المعطّل.
الخلط المستعجل بين أنّ هذه الحرب هي ضدّ الحزب، وبين أنّها ضدّ لبنان ككلّ، يقود إلى الخلط بين مصالح الحزب ومصالح اللبنانيين
وعليه من الصعب، من خلال دعوات تضامنية، لا شكّ في صدقها، إقناع اللبنانيين أنّ هزيمة الحزب أخطر عليهم من تبعات انتصاراته الجزئية التي عاشوها. ولئن اختزل الحزب لبنان في مشروعه الإقليمي، وجعل من الصعب التفريق بين استهداف الحزب وتأثيرات الحرب على الكيان اللبناني بأكمله… بات المدخل الوحيد لاستعادة الدولة لقرارها وسيادتها، هو إعادة تعريف المصالح الوطنية اللبنانية بالتأسيس العلني والصادق والشجاع على أنقاض الهيمنة المسلّحة، أيّاً تكن الأسباب والسياقات التي أدّت إلى ضرب هذه القدرة.
فلا ينبغي لدعوات المصالحة وبناء الثقة والمشتركات، أن تختصر بتضامن مؤقّت في مواجهة عدوان خارجي، في حين تتجاهل الحاجة إلى المحاسبة، وتعيين الأسباب الجذرية لتفكّك لبنان بصدق.
لا يختلف لبنانيّان على أنّ في صلب هذه الأسباب احتفاظ الحزب بميليشيا تتفوّق على سلطة الدولة، مهّدت لأسر مصالح لبنان في سجن الطموحات الإيرانية، على نحو غير مسبوق في تاريخ التجربة اللبنانية منذ تأسيس لبنان الكبير.
رأى المسيحيون في الاجتياح فرصة للتخلّص من السلاح الفلسطيني، الذي اعتبروه تهديداً لوجودهم ودورهم السياسي، ومحاولة لاستعادة السيادة وتثبيت موقعهم
الفوارق مع تجربة “الحركة الوطنيّة”
ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، لا بدّ من تعيين الفارق الجوهري بين استدراج الحركة الوطنية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، السلاح الفلسطيني، كوسيلة لتعديل ميزان الشراكة السياسية داخل لبنان، وبين تحويل الحزب لبنان بأسره إلى سلاح في يد إيران.
فعلى الرغم من إدانتي الشخصية لرهانات الحركة الوطنية، وتعارضي القطعي معها، إلا أنّها كانت تعكس، ولو جزئياً، ارتباطاً مباشراً بالمطالب الداخلية المتعلّقة بتوازن السلطة وبناء نظام أكثر عدالة بين اللبنانيين. في المقابل، لم يفعل الحزب سوى توظيف مقدّرات الوطن لخدمة أهداف إقليمية لا علاقة لها بمصالح اللبنانيين أو بشراكتهم السياسية. إنّ انتهاء التجربتين إلى تعميق الانقسامات وتكريس تبعية لبنان لمحور خارجي، هدّد على الدوام وحدة البلد ونظام الشراكة الذي يُفترض أن يحمي تنوّعه.
أمّا التجربة المسيحية في رهانها على الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 فتُبرز استخداماً انتهازياً لمعادلة إقليمية لم يخلقها المسيحيون، ولا خلقت حضورهم السياسي، ولم تربطهم بها أيّ صلة فكرية أو ثقافية. رأى المسيحيون في الاجتياح فرصة للتخلّص من السلاح الفلسطيني، الذي اعتبروه تهديداً لوجودهم ودورهم السياسي، ومحاولة لاستعادة السيادة وتثبيت موقعهم في النظام الطائفي كقوّة مركزية. ومع ذلك، فإنّ هذا الخيار المصلحيّ البحت، وبسبب افتقاره إلى رؤية استراتيجية، كالسلام المصري الإسرائيلي، أو عمق وطني حاضن، جاءت نتائجه عكسية ومدمّرة. هُمّش المسيحيون في المعادلة اللبنانية، وشوّهت صورتهم كقوّة لبنانية سيادية مستقلّة. وبدل أن يستعيدوا موقعهم، دفعوا ثمناً باهظاً، نتيجة إقصائهم عن التمثيل الشرعي للمسيحيين بفعل الحصار الداخلي والسوري لهم.
يحتاج لبنان، لأجل تجاوز دائرة الصراع والانقسام، إلى أكثر من المصالحة، والوحدة في مواجهة الحرب الدائرة
إعادة تكوين السّلطة خارج السّلاح
يحتاج لبنان، لأجل تجاوز دائرة الصراع والانقسام، إلى أكثر من المصالحة، والوحدة في مواجهة الحرب الدائرة. تبدأ خارطة الطريق من استراتيجية واضحة لاستعادة السيادة وإعادة تكوين مؤسّسات النظام السياسي خارج هيمنة السلاح. أولى الخطوات تكون بانتخاب رئيس للجمهورية، خارج حسابات السلاح، تقوم رئاسته على 3 مرتكزات:
1- إعادة بسط سلطة الدولة واحتكارها المطلق لقرارات الحرب والسلم، ونزع سلاح الحزب، الذي أثبت عجزه التامّ عن الحماية والدفاع والردع.
2- تبنّي الحياد الإقليمي، بغية الخروج من دائرة الحروب بالوكالة.
3- إعادة تكوين أجهزة الرقابة الرئيسية في الدولة بغية تفكيك منظومة الفساد والزبائنية وتحرير نظام الشراكة السياسية من سلطة المافيا وإفساح المجال أمام نظام الكفاءة ضمن نظام الشراكة.
معالي الدكتور طارق متري
إنّ دعوتك إلى الإنسانية المشتركة والعمل الجماعي ملحّة في هذا الزمن العصيب. لكنّها، على الرغم من إلهامها، يجب أن تتصدّى لهذه الحقائق المزعجة. أمّا خلاف ذلك، فإنّها قد تُستخدم كغطاء لاستمرار الوضع الراهن، حيث تُستخدم دعوات الوحدة لإخفاء الانقسامات البنيوية ومنع التغيير الحقيقي.
لا يكمن خلاص لبنان في المصالحات المؤقّتة أو التضامن الظرفي، بل في إعادة تخيّل نظامه السياسي، واستعادة سيادته، والالتزام بالعدالة والمحاسبة، وتثبيت السقوط التامّ للسلاح الفئوي. عندها فقط يمكن للمصالحة أن تتحقّق، ليس كإملاء مثاليّ وقيميّ فقط، بل كنتيجة طبيعية لمجتمع أكثر صحّة وعدالة.
بكل احترام وحبّ،
نديم قطيش
إقرأ أيضاً: مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط
لمتابعة الكاتب على X: