أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا عن كون نهايته محكومة بالأمل، الذي يحمله فريق العمل أيضاً، حمل الفيلم اسم لبنان إلى الأوسكار. ويتأمّل منتجه وصوله إلى القائمة القصيرة ليحمل لبنان على جناحي الفنّ، مجدّداً، فيما الأجنحة اللبنانية تكسّرها الحروب في الداخل.
صفّق جمهور مهرجان القاهرة السينمائي المنعقد حالياً في العاصمة المصرية طويلاً للعمل اللبناني “أرزة” الذي عرض ضمن مسابقة “آفاق السينما العربية” ونال حفاوة كبيرة، خصوصاً أنّه انطلق في الصالات العربية والغربية في حين يُدكّ لبنان بمسيّرات الاحتلال الإسرائيلي وغاراته العنيفة من الجنوب الى البقاع وبيروت والشمال، فشَلَّ القطاع الثقافي اللبناني الذي بقي يقاوم الحرب منذ تشرين الأوّل 2023 ويحاول منح البلاد كمشات أمل متفرّقة، إلا أنّه دخل في كوما قسرية منذ أيلول الماضي وسط هول الجرائم الإسرائيلية.
كانت خبراً إيجابياً مشاركة فيلم “أرزة” في مهرجانات عالمية من بكين إلى “تريبيكا” في نيويورك، إلى “مهرجان الأفلام اللبنانية” في أستراليا، وصولاً إلى القاهرة مهد السينما العربية وحاضنة الفنّ السابع… إضافة إلى ترشيحه لجوائز الأوسكار من قِبل الدولة اللبنانية. خبر فريد أعطى جرعات أمل، وسط الكمّ الهائل من أخبار الموت والقتل والنزوح.
يعالج الفيلم قصّة امرأة لبنانية مثابرة تشتري درّاجة ناريّة مستعملة لتُوسّع أعمالها في تحضير الفطائر المنزلية أو المناقيش. تسرق قطعة ذهب من خزانة شقيقتها المضطربة نفسيّاً لدفع القسط الأوّل، ثمّ تُسرَق الدرّاجة لتبدأ رحلة “أرزة” في البحث عنها.
الواقع البيروتيّ من دون تجميل
الواقع البيروتيّ كما هو ينقله الفيلم عبر أبطاله دياموند أبو عبود وبيتي توتل وبلال الحموي وضيوف الشرف فادي أبي سمرا وطارق تميم، وهو واقع يراوح بين الانقسامات والتعدّدية وحرارة عواطف الأمّهات ودفء البيوت والشارع المتفلّت والأزمات السياسية الاقتصادية، لكن بخفّة سيناريو يزاوج بين الدراميّ والكوميديّ.
يعكس الفيلم تفاصيل بيروت الحميمة والحقيقية بعيوبها وجماليّة شعبيّتها وسذاجتها. هناك شيء في كلّ مشهد من زواريب بيروت وشرفاتها وشبابيكها وغرفها الضيّقة وساحاتها الواسعة… من ذكريات سكّانها الصغار والكبار… فالمخرجة وكاتبو السيناريو والأبطال هم أنفسهم ممّن عاشوا تفاصيل هذه المدينة المتناقضة والغارقة بالمشاكل حدّ الثمالة، المدينة التي يحبّونها على عيوبها كافّة، بيروت الملوّنة بشوارعها وأحيائها الشعبية التي قلّما نراها في السينما أو الدراما اللبنانية، بيروت الحقيقية غير “المروتشة” و”غير المُمنتجة” موجودة في الفيلم لتعبّر عن حالها وعن ناسها في الأوزاعي والطريق الجديدة وبرج حمّود مثلاً، المناطق الشعبيّة المكتظّة بالسكّان، أو في المنارة وبدارو المنطقتين البورجوازيّتين السياحيّتين.
أرزة بيروت لم ترفع الأعلام البيضاء
تمثّل أرزة، التي تؤدّي دورها عن جدارة الممثّلة اللبنانية دياموند بو عبود، أمّاً مثالية مضحّية تشغل النجوم والسماء من أجل إنقاذ عائلتها، أمّاً من لحم ودم، أمّاً رؤوفاً في صوتها المبحوح الحنون، وعيونها الحزينة لكثرة القهر الذي تعيشه والفقر، والوجه القلق على مستقبل ابنها. فقد بدت دياموند بدورها هذا كبيروت قلقة حزينة وخائفة على مستقبل مجهول. بيروت الجميلة من دون ماكياج ولا عمليات تجميل، بدمارها ونفاياتها وأزقّتها الشعبية وشوارعها الفاخرة وكلّ ما فيها من فوضى، تشبه أرزة في الفيلم.
عروس المتوسّط سقاها الدهر من مرارته، والفساد من لوعته، والنظام المصرفي رماها أرضاً، والحروب الأهلية والإسرائيلية دمّرت نسيجها الاجتماعي الذي يبدو في الفيلم أنّه لا يزال ينبض بشيء إيجابي. هي مدينة تعيش على فتات المساعدات، يسرقها الكبار ويدفع الثمن الصغار مثل أرزة وابنها. لكنّ أرزة كما بيروت لم ترفع الأعلام البيض.
في حديث لـ “أساس” على هامش مهرجان القاهرة، قالت دياموند بوعبود: “أرزة بالنسبة لي هي كلّ لبناني، وهي موجودة داخل كلّ واحد منّا بنضالها وإصرارها على الحياة وحبّها للحياة، وهي المرأة اللبنانية وأيّ امرأة في العالم، هي بيروت ولبنان”.
أضافت: “عندما قرأت السيناريو عشقت شخصيّة أرزة، لكنّ تأدية الدور لم تكن سهلةً وتتطلّب منّي بذل جهود كبيرة لأنّني كنت حريصة على تقديم الشخصية على أفضل وجه بتفاصيلها وحواسّها وقلبها كأنّها شخصية حقيقية ليصدّقها المشاهد”. واعترفت بوعبود: “لقد بنيت علاقة قويّة مع أرزة، وكنت سعيدة وفخورة جدّاً بتأدية هذا الدور لأنّني مؤمنة بأرزة وبمن مثلها وبقضيّتها وأحترمها كثيراً”.
ما زاد فخر بوعبود بالفيلم هو “مشاركته في مهرجان عريق مثل مهرجان القاهرة، وكنّا نرى تفاعل الجمهور الإيجابي في عيونه. المصريون أحبّوا أرزة وتماهوا مع قضيّتها”. وأشارت إلى شعورها المتناقض “بين الفرح بنجاح الفيلم في الولايات المتحدة وكندا وترشّحه للأوسكار، والقهر على ما نمرّ به كشعب لبناني في هذه الظروف الصعبة، لكنّني سعيدة لأنّ أرزة تحمل صوتنا وتحكي عن لبنان وتوصل صوته للعالم حاملة طاقة أمل ونور”.
تمثّل أرزة، التي تؤدّي دورها عن جدارة الممثّلة اللبنانية دياموند بو عبود، أمّاً مثالية مضحّية تشغل النجوم والسماء من أجل إنقاذ عائلتها
عليّ العربيّ: رهان ناجح
أمّا المغامرة التي أخذها على عاتقه الشخصي كمنتج فتحدّث عنها علي العربي صاحب شركة “Ambient Light film” المنتِجة للفيلم لـ”أساس”، قائلاً: “أوّل ما قرأت السيناريو أخذت قراراً بإنتاج الفيلم بسرعة فائقة لا تتعدّى ساعتين. وهذا لم يحصل منذ بدأت بالإنتاج قبل سنوات”. وأضاف: “لم ننتظر أيّ تمويل كما نفعل عادة. بل بلّغنا فريق العمل أنّنا سننتج الفيلم على نفقتنا الخاصة لإيماننا بقوّة العمل ولجمعه عناصر تجارية وفنّية ونصّية تساهم في نجاحه”.
أفاد العربي منتج “كباتن الزعتري” و”وداعاً جوليا”، الفيلمين اللذين حازا جوائز عالمية: “قد تكون قصة “أرزة” بالنسبة للّبنانيين الذين يعيشون المعاناة والتناقضات نفسها في الشارع اللبناني، قصّة محلّية عاديّة. لكن بالنسبة لي كمنتج وصانع أفلام، أرى أنّ الفيلم عالمي بكلّ معاييره، ويستمتع به أيّ جمهور في العالم، من الصين إلى الهند إلى اليابان والولايات المتحدة وكندا. والآن نرى استقباله بحفاوة من الجمهور المصري كما نجح في ولايات أميركية وكندا”.
ماذا عن نقاط القوّة التي لفتته كمنتج؟
أجاب العربي بأنّ “أرزة” يجمع بين الفيلم التجاري والفنّي (Art house movie). فهو يتناول قصّة أمّ بسيطة تُناضل من أجل سعادة عائلتها وتكافح في بيع الفطائر أو المناقيش، في مجتمع تحكمه الانقسامات والعواطف المتناقضة والأزمات الاقتصادية. وذلك بطريقة اجتماعية كوميدية “لايت” ومسلّية يمكن لأيّ عائلة أن تجتمع حولها. فهذه الأمّ تمثّل أمّي وجارتي وخالتي وأيّ أمّ في الدنيا.
تكمن أهمّية النصّ بالنسبة للمُنتج في أنّه “مكتوب بذكاء. إذ يحوّل الطقوس والإشارات الطائفية التي يختلف عليها المجتمع اللبناني إلى نِكات وسخرية
صوت لبنان… المقتول بلا ذنْب
تكمن أهمّية النصّ بالنسبة للمُنتج في أنّه “مكتوب بذكاء. إذ يحوّل الطقوس والإشارات الطائفية التي يختلف عليها المجتمع اللبناني إلى نِكات وسخرية. وفي إخراجه عين شغوفة بإبراز كلّ ما تكتنزه ذاكرتها كلبنانية مغتربة تحمل في لاوعيها ألوان الشوارع وحرارة العلاقات”.
أكّد العربي: “كان هناك رهان كبير في مصر والولايات المتحدة مقرّ شركتنا المنتجة، على “أرزة” نصّاً وإخراجاً وتمثيلاً، ونجحنا. أنا سعيد بالتجربة وأحبّ تكرارها مع صنّاع أفلام لبنانيين آخرين والاستثمار في مشاريع لبنانية”.
إقرأ أيضاً: 90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا
ختاماً اعتبر العربي أنّ صناعة أفلام مثل “أرزة” أمر مهمّ الآن في هذه الظروف وفي المحافل الدولية، “لأنّها تنقل صوت لبنان الحقيقي عبر أفكار أبنائه وإبداعهم، خصوصاً أنّ هذا الفيلم صناعة لبنانية بتمويل عربي من دون أيّ تدخّل خارجي، لأنّ أمثال أرزة وابنها وغيرهم من الضحايا الذين يسقطون في الحرب الدائرة في لبنان هم بشر يكافحون من أجل الحياة ولديهم طموحات وأحلام ويُقتلون من دون ذنب”.