من قال إنّه لا يمكن التعلّم من العدوّ؟
بل على العكس. أهمّ الدروس تكون غالباً مستخلصة من مراقبة العدوّ، خصوصاً بعد معركة، وبالأخصّ بعد ما يشبه النكسة أو الكبوة أو النكبة، تغليفاً لما قد قد يكون فشلاً أو هزيمة.
هكذا تتحضّر طهران في سلوكها المقبل، وتحديداً في لبنان ربّما، لاستلهام أحد أبرز أعدائها. كلّ ذلك بحسب دبلوماسي يعرف.
يتوقّف الدبلوماسي المقيم في بيروت عند ثلاث عبارات سمعها من مسؤول لبناني، نقلاً عن كبير مستشاري خامنئي، علي لاريجاني، في زيارته الأخيرة للعاصمة اللبنانية، ويقرأ في دلالاتها ومعانيها وأبعادها.
تتحضّر طهران في سلوكها المقبل، وتحديداً في لبنان ربّما، لاستلهام أحد أبرز أعدائها. كلّ ذلك بحسب دبلوماسي يعرف
القسمة بين شرفاء وعملاء
عبارة أولى قالها لاريجاني: إنّ في لبنان جهات وأطرافاً محايدة حيال إسرائيل.
كلام تكمن خطورته في إشارته إلى ما سيأتي. إذ يقول لاريجاني لناسه كما لجميع الناس إنّ الصراع مع إسرائيل سينتهي ميدانياً، لكن لا بدّ من اختراع وسيلة ما لاستمرار استثمار هذا الصراع سياسياً.
وأفضل وسيلة لذلك هي قسمة الناس بعد التسوية إلى قسمين: شرفاء وعملاء، مقاومين ومتعاملين، ثمّ البناء على هذا التقسيم لاستدامة التربّح من قضية فلسطين، ولو بعد تطبيع كامل مع “دولة إسرائيل”، كما وقّع النظام اللبناني قبل عامين.
إذاً المطلوب منذ الآن فرز اللبنانيين بين من ثبت وفق معايير نظام لاريجاني أنّه مع فلسطين، ومن تأكّد، بالمعايير ذاتها، أنّه مع إسرائيل. هذه مسألة ضرورية لتأسيس مرحلة ما بعد إقفال سرديّة الصراع والسلاح والمقاومة وأخواتها… بحسب قراءة الدبلوماسي العارف.
المطلوب منذ الآن فرز اللبنانيين بين من ثبت وفق معايير نظام لاريجاني أنّه مع فلسطين، ومن تأكّد، بالمعايير ذاتها، أنّه مع إسرائيل
الوحدة الإسلاميّة… كاستثمار
عبارة ثانية يؤكّد الرجل نفسه، ودوماً نقلاً عن مسؤولين لبنانيين، أنّ لاريجاني قالها في بيروت أيضاً، وهي أنّ نظامه منذ الخميني حتى خامنئي كان وما زال حريصاً جدّاً على “الوحدة الإسلامية”. ليس ذلك في سياق أدبيّات نبذ الفتنة ووأدها ولعن من يوقظها… بل أكثر. هو كلام في السياق السياسي، وتحديداً في سياق ما بعد قمّة الرياض وبيانها.
كأنّ في طهران من يفكّر في أنّ الاستعادة العربية عموماً والسعودية تحديداً لراية فلسطين وقضيّتها ستكون مؤذية حتماً للمبازرة الإيرانية بقميص القدس على مدى نيّف و40 سنة.
لكن رُبّ ضارّة نافعة. فإذا استخدمنا خطاب الوحدة الشيعية السنّية الآن، يمكن لذلك أن يعوّض بعض خسائر المرحلة المقبلة، في اليمن والعراق وسوريا، لكن خصوصاً في لبنان. تصوّروا مثلاً في بيروت أن نقيم ثنائية شيعية سنّية. فهي قادرة فوراً على مصادرة البلد، ولو بدأت مناصفةً في مرحلة أولى. نكون ارتحنا من إزعاج “الأقلّيات” وقليلي الجميل من الباقين.
بعدها، ومع تركيبة قويّة من قبل جماعتنا، وبغياب زعامة سنّية قويّة، تتحوّل هذه الثنائية الشكليّة إلى أحاديّة فعليّة لشيعتنا حصراً. تماماً كما فعلنا مع حركة “أمل” منذ مطلع التسعينيات.
يذكّر الدبلوماسي الذي يتصوّر هذا التفكير الإيراني الآن بأنه سبق لطهران أن جرّبت هذه الفكرة مرّتين من قبل على الأقلّ.
الأولى مع إقامة “التحالف الرباعي” سنة 2005. يوم جاء سفيرها في باريس، وبحماية فرنسية، إلى بيروت لتركيب اتّفاق شيعي سنّي فوق دم رفيق الحريري. ودوماً بحجّة درء الفتنة المذهبية. لكنّ التطوّرات اللاحقة، داخلياً وإقليمياً، أسقطته.
إذا استخدمنا خطاب الوحدة الشيعية السنّية الآن، يمكن لذلك أن يعوّض بعض خسائر المرحلة المقبلة، في اليمن والعراق وسوريا، لكن خصوصاً في لبنان.
ثمّ حاولت طهران مرّة ثانية، يوم زارها الدبلوماسي الفرنسي العتيق جان كلود كوسران، بعد حرب تموز 2006. وفجأة تسرّب كلام عن تبديل موازين الطائف، من مناصفة إلى مثالثة، من دون أن يُعرف حتى الآن صاحب “براءة” ذلك الاختراع غير البريء، الذي أُعلن من طهران ودُفن فوراً في بيروت.
إذاً هي فرصة ثالثة الآن حيال فكرة تبدو ثابتة في سياق التصوّر الإيراني النهائي للمشهد اللبناني، كما يُقفلُ الدبلوماسي استذكاره الاعتراضيّ.
إيران “مستعدّة” لكلّ شيء
تبقى عبارة ثالثة يروي العارف بكواليس لقاءات لاريجاني أنّه عبّر عنها عندنا، ألا وهي اهتمام بلاده المستميت بفتح مجالات الاستثمار لها في لبنان بعد التسوية، مع استعدادها لمقتضيات ذلك أيّاً تكن: تفتيشٌ دقيق على المرافق الحدودية، مستعدّة.
حتّى إعادة تطبيق آليّات ما بعد صدور القرار 1701 في صيف 2006، مستعدّة هي لها: إنزال مسبق للطائرات المتوجّهة إلى مطار بيروت، في عمّان، لتفتيشها؟ لا مشكلة. رسوٌّ مسبق ومماثل للبواخر الآتية إلى مرفأ بيروت، في دبي، وللهدف نفسه؟ لا مشكلة أيضاً. المهمّ أن يكون لطهران موطئ قدم ماليّ هنا في اليوم التالي.
وهي، بحسب العارف نفسه، خطوة أساسية وضرورية لإعادة بناء أدوات طهران في العاصمة اللبنانية، خصوصاً إذا التزمت دمشق ومن خلفها موسكو تنفيذ القرار الأممي 1701 فعليّاً، وبالتالي بناء دولة في لبنان، وقطع طرق الوصول إلى غابات الأدغال السائبة والمسيّبة طوال عقدين ماضيين.
تنتهي هنا عبارات لاريجاني البيروتيّة ليبدأ تعبير الدبلوماسي عن قراءته لأبعادها:
إذاً هي فرصة ثالثة الآن حيال فكرة تبدو ثابتة في سياق التصوّر الإيراني النهائي للمشهد اللبناني، كما يُقفلُ الدبلوماسي استذكاره الاعتراضيّ
هل تعلّموا من خطأ صدّام حسين؟
تذكروا صدّام حسين بعد هزيمته في الكويت مطلع 1991. يومها دُحر صدّام في شهر وأسبوع. فخرج بعد هزيمته ليعلن انتصاره على جورج بوش الأب فقط لأنّه ظلّ حاكماً لبغداد. فيما كشفت كتابات المسؤولين الأميركيين بعد أعوام أنّ واشنطن حرصت على إبقائه ضعيفاً من ضمن حساباتها التوازنيّة بين نظام الملالي وأنظمة الخليج.
لكن خلال أيام قليلة قامت انتفاضة ضدّ صدّام في المناطق الشيعية والكردية. وكاد يتداعى نظامه. فجأة في آذار 1991، أرسل وزير خارجيّته إلى الأمم المتحدة، حاملاً عرضاً كاملاً: نتخلّى عن أطماعنا في الكويت نهائياً. نوافق على إعادة ما سُرق خلال اجتياحها. نتحمّل تعويض أضرار تلك المغامرة. ونخضع لتطبيق القرارات الأممية ذات الصلة.
قيل يومها إنّ تلك الخطوة طابقت حسابات واشنطن. فتُرك صدّام حاكماً. وتُركَ يقمعُ الشيعة والكرد بوحشيّة ويُعيد فرضَ سلطته على بغداد لدزينة كاملة من الأعوام التالية. ولو لم يُفاجأ بأحداث 11 أيلول 2001 وما تلاها من تغييرات عالمية، لما سقطَ ربّما في نيسان 2003، ولظلّ حاكماً حتى اليوم!
إقرأ أيضاً: الحزب فتح باب التّغيير: “الدّولة” و”الطّائف” بلا سلاح
يسوق الدبلوماسي تلك الواقعة ليشيرَ إلى قلقه من محاولةٍ إيرانية لاستلهام تلك الأحداث، ومحاولة تكرار خلاصاتها في بعض دول المنطقة وأولاها لبنان.
هل ذلك ممكن؟
نظريّاً المماثلة معقولة. لكنْ عمليّاً لا الملالي هم صدّام، ولا لبنان اليوم هو عراق 1991، ولا العرب اليوم كما كانوا بين حافظ الأسد ومعمّر القذافي، ولا العالم الآن كما كان في زمن اندثار موسكو، وإعلان واشنطن وريثاً حصريّاً وحيداً لكلّ يالطا.
في ذكرى استقلال لبنان، ثمّة فرصة لتجديده بالتأكيد، فرصةٌ تشوبها مطبّات ومخاطر ومنزلقات حتماً، لكنّها تظلّ فرصة لكلّ لبنان، ولكلّ اللبنانيين.
لمتابعة الكاتب على X: