تتحدّث وسائل الإعلام عن مسار جديد للسياسات الأميركية في عهد الرئيس المنتخَب دونالد ترامب تجاه سائر المشكلات. ويستندون في ذلك إلى تعييناته للمتطرّفين في إدارته، والكلام الكثير حول إعدام الخصوم إنّما بدون حرب!
فهل تتحقّق هذه النذر أم السياسات الاستراتيجية لا يمكن تغييرها أم تنحسر قوّة الولايات المتحدة ومكانتها بالفعل؟! وهل يقدّم ترامب هدايا لروسيا والصين وإسرائيل؟
اشتريت بالأمس من معرض الشارقة كتاباً عنوانه: “الانحسار الأميركي، أزمات الداخل والمكانة العالمية للولايات المتحدة”. فلمّا تصفّحته وجدت استطلاعات قرأتها عشرات المرّات في عامي 2023 و2024. وكلّها تشير إلى تراجع القوّة والمكانة الأميركية في العالم مقارنةً بفترة الهيمنة (1990-2010) وحقبة الحرب الباردة (1950-1990).
تتحدّث وسائل الإعلام عن مسار جديد للسياسات الأميركية في عهد الرئيس المنتخَب دونالد ترامب تجاه سائر المشكلات
أمّا القوّة فيقصد بها الذين ينعون أميركا الجانب الاقتصادي الذي تقدّمت فيه الصين والهند وقوى أخرى بحيث تضاءل حجم الولايات المتحدة إلى حوالى أربعين في المئة من اقتصاد العالم.. وعلى الرغم من هذا التضاؤل، ما يزال الاقتصاد الأميركي في الطليعة، والمقاييس التي أقرّت في “برايتون وودز” ورمزها الدولار باعتباره عملة العالم ما تزال سائدة.
فإذا تحدّثنا عن القوّة العسكرية فلا شكّ أنّ الولايات المتحدة متفوّقة بما لا يقاس في ميزات العدد والعدّة والتكنولوجيا العجائبية في تفوّقها الكبير. لكن إذا توسّع المقياس فهناك التساوي في امتلاك السلاح النووي مع روسيا والصين وحتى الهند.. وربّما كوريا الشمالية.
لكنّ الحاطّين من الولايات المتحدة لجهة قوّتها العسكرية يقصدون خسارتها في حروبها على الرغم من التفوّق الكاسح. فقد هاجمها “القاعدة” في ديارها عام 2001 وخسرت في النهاية حربها على العراق البادئة 2003، وكذلك حربها على طالبان بأفغانستان 2002-2020. فأنت عندما تضرب ذبابةً بمدفع فالمؤكّد أنّك لن تُصيب، وستستمرّ في ملاحقة تلك الحشرة، لكنّك عندما تكفّ أو تنسحب تكون الحشرة قد صارت فيلاً.
يقال الآن إنّ العالم سيشهد مساراً جديداً لاستخدام القوّة والضغوط في عهد ترامب
مكانة أميركا الجديدة في العالم
نصل إلى المكانة، التي تعني اعتراف الكبار والأوساط وخضوع الصغار. وقد كثرت تمرّدات الكبار والأوساط الساعية إلى الندّية التي تتردّد الولايات المتحدة في شنّ الحرب المباشرة عليها مثل حرب روسيا على أوكرانيا. فهناك عشرات الأطراف التي تتفاوت في تحدّي الدولة العظمى التي صارت تتردّد كما ذكرنا لأنّها لا تطيق الحروب الطويلة الأمد، وستدع خصومها وما يرتكبون إذا طال الأمد على قوّاتها العسكرية خارج الحدود أو القواعد.
يقال الآن إنّ العالم سيشهد مساراً جديداً لاستخدام القوّة والضغوط في عهد ترامب. لكنّ المنذرين بذلك يقولون إنّ عهده الأوّل ما شهد حروباً بعكس حروب الرئيس جو بايدن والديمقراطيين (!) كيف سيؤثّر إذن؟ بالضغوط الاقتصادية والحصارات، والتهديد بالقوّة العسكرية الذي لا يعني استعمالها في الواقع.
إنّما لو تأمّلنا مواطن الصدام أو الارتطام فسنلاحظ أنّ الضغوط الاقتصادية قد لا تنفع، في حين أنّ التهديد العسكري مستحيل. التهديد العسكري لا يفيد في مواجهة روسيا والصين بسبب وجود السلاح النووي لدى هاتين الدولتين. إنّما هل هو ممكنٌ تجاه إيران وتجاه الفلسطينيين؟
بايدن تدخّل دعماً لإسرائيل بالقوّة العسكرية، لكنّ التأثير وإن أظهر تفوّقاً، فإنّه ما كان صاعقاً حتى تجاه غزة المهدّمة والحزب المتهالك وإيران المتصدّعة. والذين يشيرون إلى عنف ترامب استناداً إلى الموظّفين الكبار الذين يعيّنهم وهم معروفون بتطرّفهم، سيواجهون صعوبات وتحدّيات قد لا تقلّ عن صعوبات الخصوم الذين يستهدفونهم. بمعنى أنّ التفاوض السياسي يظلّ أقلّ كلفة ويُكسب قدرات وإمكانات ووجوه تواصل أفضل بكثير من مغامرات المواجهات المباشرة.
إنّما لو تأمّلنا مواطن الصدام أو الارتطام فسنلاحظ أنّ الضغوط الاقتصادية قد لا تنفع، في حين أنّ التهديد العسكري مستحيل
دروع إيران الصّينيّة والرّوسيّة
ثمّ إذا عدنا إلى إيران نجد أنّها درّعت نفسها باتفاقيات استراتيجية ودفاعية مع الصين ومع روسيا. وصحيح أنّهما لم تُظهرا غيرة كبرى تجاه مواجهة إيران لأميركا وإسرائيل، لكنّ التعامل مع المواجهات الأكبر قد يختلف.
فهل تتلقّى إسرائيل إنذارات؟
نحن نعرف مطالب إدارة بايدن بوقف النار. لكنّ إسرائيل لم تتوقّف. وإدارة بايدن الغاضبة كما يقال ما أوقفت إرسال الأسلحة ولا كفّت عن تهديد إيران بالأسوأ.
هناك عدّة نقاط ساخنة ما استطاعت إدارة بايدن إخمادها: مع إيران ومع الصين ومع روسيا. فهل تخمدها إدارة ترامب الذي يريد إنهاء كلّ الحروب إنّما لمصلحة الولايات المتحدة؟
إذا كان حسم ترامب لمصلحة روسيا والصين وإسرائيل، فسيخسر أصدقاء الولايات المتحدة القدامى أو بعضهم دون أن يكسب أصدقاء جدداً
وجوه الحسم التي يتوقّعها الخصوم والأصدقاء تعني التضحية بأوكرانيا والتضحية بالشرق الأوسط كلّه لإرضاء إسرائيل، والتضحية بتايوان لمصلحة الصين، بل والتضحية بالأطلسي من أجل ماذا؟
ما تراجعت قوّة الولايات المتحدة على الإطلاق. وإنّما تراجعت قدرتها على التفاوض وعلى التأثير في الوصول إلى الحلول الوسط أو ما يسمّيه البعض بـ”القوّة الناعمة”.
ترامب يراهن أن لا يجرؤ أحد على تحدّي الولايات المتحدة إذا أظهرت تصميماً وشهرت سيفها الأسطوري. إنّما المؤكّد أنّ الصين وروسيا وإيران لن تخاف، وبخاصة إذا كان التحالف حقيقياً.
إقرأ أيضاً: عصر غربيّ جديد أم خصوصيّة أميركيّة؟
أمّا إذا كان حسم ترامب لمصلحة روسيا والصين وإسرائيل، فسيخسر أصدقاء الولايات المتحدة القدامى أو بعضهم دون أن يكسب أصدقاء جدداً. وعندها بالفعل يكون هناك انحسارٌ لأميركا في القوّة والمكانة، وهو الأمر الذي لم يحصل حتى اليوم.
فلننتظر كيف يتصرّف ترامب!
لمتابعة الكاتب على X: