لم يكن الموقف الإيراني من انتخاب الرئيس الأميركي الجديد – القديم دونالد ترمب موقفاً سلبياً بالكامل، ولم يكن في الوقت نفسه إيجابياً أيضاً. فالحذر الشديد كان واضحاً في كلّ المواقف، حتى في الكلام الرسمي ومن أعلى المواقع، من أنّ التغيير في الرئاسة الأميركية ومجيء الجمهوري بديلاً عن الديمقراطي لا يمثّلان أيّ تغيير جوهري في صلب الأزمة بين طهران وواشنطن، وأنّ العداء بينهما لم يطرأ عليه أيّ تغيير، وأنّ الأسلوب هو الذي يختلف.
من هنا يمكن فهم الموقف الذي أكّده وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي في أوّل تعليق للدبلوماسية الإيرانية على هذا التغيير وعودة ترمب، من أنّ الموقف الإيراني من أيّ جهة، خاصة الأميركية، “تحكمه المصالح الإيرانية”، وأنّ طهران “على استعداد للتفاوض مع أيّ جهة ما دامت تحقّق هذه المصالح”.
لم تكن الواقعية الإيرانية في التعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة من خارج المتوقّع، وهو ما كشف عنه عراقتشي أيضاً بالقول إنّ المرحلة الجديدة، في حال لم تكن هناك إمكانية للتوصّل إلى تفاهمات عميقة وحقيقية في العلاقات المتوتّرة مع واشنطن، تفرض على إيران السعي إلى “إدارة الصراع” معها.
هذا يعني أنّ الهدف من هذه الدبلوماسية أو الاستراتيجية هو منع وصول الأمور بينهما إلى مستويات مرتفعة ومتقدّمة من المواجهة والتصعيد والتوتّر، والسماح بإمكانية ترك الأبواب مواربة بينهما والحؤول دون إقفالها، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة. وبالتالي عدم إعطاء الخصم أو العدوّ الإسرائيلي ورقة مجّانية تسمح له باستثمارها على حساب المصالح الإيرانية.
لم يكن الموقف الإيراني من انتخاب الرئيس الأميركي الجديد – القديم دونالد ترمب موقفاً سلبياً بالكامل، ولم يكن في الوقت نفسه إيجابياً أيضاً
لقاء ماسك لإيرواني
لم يكن اللقاء السرّي الذي حصل بين إيلون ماسك أبرز مرشّحي الرئيس الأميركي الجديد ومندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني في نيويورك بطلب من الأوّل، والذي استمرّ لأكثر من ساعة في مكان سرّي، وسرّبت خبره صحيفة “نيويورك تايمز”، أوّل لقاء بين جهات رسمية من كلا الطرفين.
فقد سبق لإيرواني أن عقد لقاءات متعدّدة مع المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية، بحضور ومشاركة مسؤولين ومستشارين في وزارتَي الخارجية والدفاع الأميركيّتين، مع معرفته لهويّتهم الإدارية مسبقاً، أي لم يكونوا مجهولين بالنسبة له.
حصلت هذه اللقاءات بعد التغيير في التركيبة الداخلية في إيران وانتخاب مسعود بزشكيان رئيساً جديداً، وهو الذي رفع في حملته الانتخابية شعار الحوار مع الجميع، حتى الأميركي، بما يضمن تأمين المصالح الإيرانية الوطنية والاستراتيجية. ثمّ أكّد بعد انتخابه في أوّل مؤتمر صحافي له أن لا عداء بين إيران والولايات المتحدة، وأنّهما أخوة “شرط أن تتخلّى أميركا عن عدائها لإيران”. ثمّ أكّد مجدّداً هذه السياسات والتوجّهات في أوّل خطاب له أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
أثار الكشف أو تسريب الأخبار عن اللقاء الذي جمع ماسك مع إيرواني، زوبعة من المواقف المتناقضة والمتعارضة في الداخل الإيراني. على الرغم من أنّ مثل هذه الخطوة لا يمكن أن تحصل من دون تنسيق مسبق من المفترض أن يقوم به إيرواني مع طهران، وتحديداً مع غرفة الأمن القومي في مكتب المرشد أوّلاً، ثمّ مع أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يرأسه بزشكيان، خاصة أنّ إيرواني جاء إلى موقعه في الأمم المتحدة من موقع مساعد الأمين العامّ السابق لهذا المجلس علي شمخاني، علاوة على أنّه تولّى مهمّة التواصل مع مدير جهاز المخابرات الأميركي CIA وليم بيرنز في العراق.
الموقف الإيراني من أيّ جهة، خاصة الأميركية، “تحكمه المصالح الإيرانية”، وأنّ طهران “على استعداد للتفاوض مع أيّ جهة
على الرغم من استنفار الدبلوماسية الإيرانية لنفي حصول هذا اللقاء، خاصة بعد الحملة القاسية التي شنّتها الأوساط المحافظة ضدّ الحكومة واتّهامها بالخضوع والتسليم والخوف من عودة ترامب إلى السلطة والقرار في البيت الأبيض، إلّا أنّ التأخير في إعلان هذا النفي نحو خمسة أيام كان كافياً للبحث في آليّات استيعاب هذه الهجمة وإعادة تعريف المصالح الاستراتيجية للنظام وما تقتضية المرحلة المقبلة من خطوات يجب أن تحصل في إطار المصالح القومية والاستراتيجية وفي أجواء من التفاهم والوفاق الوطني، أسوة بما حصل في ثمانينيات القرن الماضي، حين وُضعت آليّة التعامل مع الكشف عن فضيحة “إيران غيت” أو “إيران كونترا” خلال إدارة رونالد ريغان في البيت الأبيض وفي ظلّ وجود المؤسّس الإمام الخميني.
اتّهام الحكومة بالتخلّي عن حقّ الانتقام
لم يقف الهجوم على حكومة بزشكيان وفريقه الدبلوماسي عند لقاء إيرواني – ماسك، بل اتّسع ليشمل اتّهام هذه الحكومة بالتخلّي عن حقّ إيران في الانتقام من الجهات والشخصيات التي لعبت دوراً مباشراً وغير مباشر في اغتيال قائد قوّة القدس الجنرال قاسم سليماني في بغداد فجر الثاني من كانون الثاني عام 2020، وبالتحديد الرئيس الأميركي ترامب ووزير خارجيّته مايك بومبيو.
اعتبرت صحيفة “كيهان” التابعة لإشراف المرشد الأعلى والناطقة باسم الدولة العميقة أو منظومة السلطة، أن لا أحد يملك الحقّ في التخلّي عن حقّ الانتقام وكيفية تنفيذه، وأنّ حكومة بزشكيان في حديثها عن “اعتماد الآليّات القانونية” في معاقبة ومحاسبة المتورّطين ترتكب “خيانة” وتعطي صورة للطرف الآخر عن حجم الخوف الذي تعيشه إيران من عودة ترامب.
لكنّ الصحيفة ورئيس تحريرها حسين شريعتمداري قفزا فوق المواقف التي سبق أن أعلنها الرئيس السابق إبراهيم رئيسي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة وفي لقائه مع قناة CNN وجاء فيها أنّ الموقف الإيراني في قضية اغتيال سليماني سيكون عبر المسالك القانونية والقضائية.
من الواضح أنّ واشنطن – ترامب وطهران تفكّران جدّياً باليوم التالي لدخول الرئيس الأميركي مكتبه
الرّغبة بإنهاء المسار
لا أحد ينكر مدى رغبة كلا الطرفين، الأميركي والإيراني، في إنهاء هذا المسار الطويل من العداء بينهما، وأن يتوصّلا إلى نقطة وسط بينهما تؤسّس لمرحلة جديدة من بناء الثقة والتعاون والتفاهم، بما يضمن لكلّ منهما مصالحه في الإقليم.
إلّا أنّ أوساطاً سياسية ودبلوماسية إيرانية حاليّة وسابقة تتخوّف من أن تدخل هذه الخطوات، وآخرها لقاء إيرواني – ماسك، في إطار سياسة إدارة الصراع، وأن يكون مصيرها كمصير التجارب السابقة، من “إيران غيت” مروراً بكلّ مراحل التعاون في أفغانستان ومؤتمرَي بون وطوكيو، بالإضافة إلى العراق والتفاهمات التي كان بالإمكان البناء عليها، وصولاً إلى الاتفاق النووي الذي وقّعته إدارة الرئيس باراك أوباما مع حكومة حسن روحاني.
إقرأ أيضاً: السّيستاني لإيران: السّلاح بيد الدّولة فقط
أمام حجم التحدّيات التي تواجهها إيران والمحور الذي تقوده في الإقليم، خاصة نتيجة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، وما يمكن أن يذهب إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من محاولة جرّ إيران مباشرة إلى حرب مباشرة قد تنقل المنطقة إلى مستوى جديد من التصعيد لن يبقى الأميركي بعيداً عنه، من الواضح أنّ واشنطن – ترامب وطهران تفكّران جدّياً باليوم التالي لدخول الرئيس الأميركي مكتبه. بالتالي على الطرفين التفكير بآليّة إخراج العلاقة بينهما من دائرة الغموض والسرّية الملتوية ونقلها إلى آليّة واضحة تؤسّس لمرحلة جديدة بينهما وفي المنطقة.