الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

مدة القراءة 8 د

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك ليس كرديّاً. مقياس ما قبل أكثر من قرن لم يتغيّر بالنسبة للكثيرين في الداخل التركي. لكنّ معضلة الترجمة العملية لهذه العبارة ما زالت قائمة وتعصف في بارومتر العلاقات بين الحين والآخر.

 

يريد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تتويج فترة حكمه بإنجاز كبير في التعامل مع معضلة الملفّ الكردي التي ما زالت تطارد الداخل التركي. لكنّه يواجه أكثر من حاجز وعقبة سياسية واجتماعية تقف في طريقه. حاول في عام 2013 وكاد أن يصل إلى هدفه، لكنّ تصلّب ورفض البعض في الداخل والخارج أطاح بالمولود الجديد قبل أن تحتفل أسرته به.

وسط هذه التطوّرات فجّر دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وشريك إردوغان في “تحالف الجمهور” قنبلة سياسية من العيار الثقيل، وهو يتوجّه نحو مقاعد كتلة حزب مساواة وديمقراطية الشعوب (ديم) المحسوب على الصوت الكردي المعارض ليصافح نواب الكتلة ويهنّئهم على السنة التشريعية الجديدة للبرلمان في مطلع تشرين الأول المنصرم، حين قال: “أنتم أيضاً حزب سياسي يعمل تحت سقف هذا البرلمان التركي”.

القنبلة الثّانية لبهشلي

بعد أسبوع فجّر بهشلي قنبلة سياسية ثانية بدعوة “ديم” لمراجعة سياساته ومواقفه حيال المسائل السياسية والأمنيّة الداخلية. فجاءه الردّ بأنّه من دون تغيير طريقة التعامل مع عبدالله أوجلان مؤسّس “حزب العمّال الكردستاني” المصنّف إرهابياً من قبل العشرات من دول العالم، والسجين في جزيرة إيمرالي، لن يكون أيّ تحوّل في المواقف. وهكذا قرّر زعيم الحركة القومية تحريك الحجر الثالث على رقعة الشطرنج في لعبة سياسية جديدة لا تفاصيل معلنة حولها بعد، وهي المطالبة بتسهيل وقوف أوجلان أمام كتلة “ديم” في البرلمان، لإعلان فسخ حلّ تنظيم حزب العمّال ودعوة عناصره إلى ترك السلاح مقابل فتح الطريق أمام طرح مادّة “حقّ الأمل” بعد سنوات طويلة من السجن.

في جميع الأحوال لا يمكن قبول سوى سيناريو واحد، وهو أنّ بهشلي لن يحرّك أحجار إردوغان على رقعة الشطرنج دون موافقة الأخير

سيناريو أن يدخل أوجلان البرلمان التركي ويخاطب تركيا عبر كتلة “ديم”، هو بحدّ ذاته بين المستحيلات لأكثر من سبب قانوني ودستوري. لكن ما يلي فرضية من هذا النوع مهمّ أيضاً: كيف ستسير الأمور بعد ذلك؟ وما هي التنازلات المتبادلة التي ستقدّم على طريق إنهاء ملفّ معقّد عمره عشرات السنين؟ ومن الذي سيتولّى المهمّة وسط رفض متزايد في صفوف القوميين الأتراك؟ بل لماذا يطرح بهشلي اليوم هذه المسائل؟ وأين سيتوقّف؟ وهل بمقدور أوجلان أن يؤثّر على القواعد الكردية بعد 24 عاماً من عزلته في سجنه؟

بهشلي وخلفه إردوغان

ردّة فعل قيادات حزب العدالة حليف بهشلي، فيها الكثير من التأنّي والحذر بانتظار معرفة ردود الفعل والمواقف الحزبية والسياسية التي ستصدر عن بقيّة الأحزاب. حزب الشعب الجمهوري المعارض دعم الفكرة انطلاقاً من التعامل مع ملفّ مزمن لا بدّ من حسمه. بقيّة أحزاب اليمين القومي رفضت العرض وحذّرت من خطوة بهذه الخطورة تفتح الأبواب أمام دخول أوجلان الذي تسبّب بمقتل الآلاف الصرح البرلماني التركي. فلماذا يترك بهشلي نفسه أمام امتحان سياسي وشعبي صعب ووسط مغامرة السير في المجهول من أجل استرداد ما فقده من شعبية في الأعوام الأخيرة، أم هناك دوافع أكبر وأعمق من ذلك؟ وهل هناك تفاهمات بين بهشلي وإردوغان حول ما يجري اليوم، أم ما يفعله زعيم الحركة القومية يتمّ بعيداً عن خيارات الحزب الحاكم ومن دون معرفته أو التنسيق معه؟

رمى زعيم حزب الحركة القومية دولت بهشلي، عندما كان في صفوف المعارضة، حبلاً غليظاً باتّجاه حزب العدالة والتنمية

الحقيقة الأولى هي أنّ دولت بهشلي السياسي والقومي المخضرم لن يبادر ويناور من تلقاء نفسه ويحرّك الرماد تحت ملفّ أوجلان المرتبط بأكثر من شقّ سياسي وقانوني وأمنيّ من دون الرجوع إلى حليفه إردوغان. قناعة أخرى لا يمكن تجاهلها تقول إنّ ما يفعله بهشلي قد يكون بقرار من مؤسّسات وأجهزة الدولة العميقة في تركيا التي ترى مخاطر المتغيّرات الإقليمية المتلاحقة المحيطة بتركيا، خصوصاً في العام الأخير، ورفع تل أبيب بدعم أميركي لشعار الشرق الأوسط الجديد، وارتدادات ذلك على تركيا ومصالحها في المنطقة.

إردوغان

هناك بالمقابل من يردّد أنّ للوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه تركيا دوره في تحريك الملفّ الكردي من جديد. وقد يكون بين الأهداف، كما تردّد أصوات في المعارضة، تحريك الملفّ باتّجاه تعديلات دستورية والتخلّي عن الكثير من موادّ النظام الرئاسي المعلن قبل 7 سنوات، ومحاولة العودة إلى قواعد النظام البرلماني الذي يفتح الطريق أمام حزب العدالة والتنمية للبقاء في السلطة، بعد تفتيت صفوف المعارضة وكسب دعم الناخب الكردي في ضوء خطوات انفتاحية جديدة.

في جميع الأحوال لا يمكن قبول سوى سيناريو واحد، وهو أنّ بهشلي لن يحرّك أحجار إردوغان على رقعة الشطرنج دون موافقة الأخير، وربّما بطلب منه. فضمانة حزب قومي عارض لسنوات طويلة طريقة التعامل مع الملفّ الكردي، مسألة مهمّة بالنسبة لإردوغان الذي لا يريد أن يخسر تحالفه مع الحركة القومية في هذه الظروف السياسية الصعبة التي يمرّ بها.

يريد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تتويج فترة حكمه بإنجاز كبير في التعامل مع معضلة الملفّ الكردي التي ما زالت تطارد الداخل التركي

عندما كان البعض في اليمين واليسار يشيد بتصريحات بهشلي حول دفع الحوار في الملفّ الكردي في الداخل التركي، لم يكن في الحسبان أنّ عملية أمنيّة عدليّة ستنفّذ ضدّ 4 رؤساء بلديات في حزب الشعب الجمهوري وحزب “ديم” بتهم الالتصاق بإرهاب حزب العمّال، وأنّه سيتمّ عزلهم من مناصبهم وتعيين وكلاء يديرون شؤون بلديات هذه الأماكن نيابة عنهم. هناك أكثر من تساؤل حول صدفة التوقيت بين ما يفعله بهشلي وبين إبعاد رؤساء البلديات عن مواقعهم: هل هي رسالة ردّ على تحرّكات بهشلي نفسه؟ أم هي خطوة باتّجاه حزب الشعب الجمهوري الذي يواصل زيادة شعبيّته وانفتاحه على حزب “ديم” وقياداته؟ أم هي خطوة عاديّة تنفّذها الأجهزة العدلية والأمنيّة؟

التّاريخ لا يكرّر نفسه

قال حسين يايمان الأكاديمي والنائب في حزب العدالة والتنمية وأقرب أعوان إردوغان في إدارة الملفّ الكردي في عام 2011، إنّ النقطة التي وصلنا إليها تحتّم التحرّك العملي لأنّنا استنفذنا كلّ خطوات الحوار وتحدّثنا في كلّ شيء.

جرت محاولة عام 2013، أي بعد عامين على هذه الجهود، وباءت بالفشل الذريع، وها نحن ننتظر المحاولة الثانية منذ عقد تقريباً. بهشلي هو من قرّر تولّي زمام المبادرة، لكنّه قد يدفع ثمناً سياسياً مكلفاً إذا ما دفعت الرياح القارب باتجاه آخر. حليفه إردوغان اكتفى بدعم الخطوة، لكنّه لم يتحرّك ميدانيّاً لتفعيلها. وهناك من يقول إنّ حوالي 7 آلاف حزبي من الحركة القومية تقدّموا باستقالاتهم في الأسبوعين الأخيرين. يقول استطلاع رأي أخير إنّ 67 من داعمي الحزب يعارضون خطوة سياسية من هذا النوع، وإنّ خصومه في الحركات القومية يحصدون المزيد من الأصوات والدعم نتيجة تصعيدهم ضدّه.

ردّة فعل قيادات حزب العدالة حليف بهشلي، فيها الكثير من التأنّي والحذر بانتظار معرفة ردود الفعل التي ستصدر عن بقيّة الأحزاب

لكنّ الكثير من المواقف والتجارب السياسية التي خاضها بهشلي أثبتت أنّه لن يسمح لأحد بدفعه خارج المشهد السياسي. ربّما يضع حزب “ديم” أمام خيار التمسّك بارتباطه بحزب العمّال أو التخلّي عنه. لكنّه يوجّه رسالة لحليفه حزب العدالة والتنمية أيضاً بأنّه لن يسمح بأيّة تفاهمات أو حوار سرّي مع القيادات الكردية في تركيا من دون علمه وأخذ رأيه، وأنّه قادر على دفع البلاد نحو انتخابات مبكرة كما فعل أكثر من مرّة في العقدين الأخيرين، إذا ما شعر أنّ توازنات سياسية جديدة تبنى على حساب حزبه، خصوصاً بعد رسائل التهدئة والتطبيع بين حزب العدالة ومنافسه المعارض حزب الشعب الجمهوري.

إقرأ أيضاً: الشق الإيراني في الشرق الأوسط الجديد

التاريخ لا يكرّر نفسه دائماً. رمى زعيم حزب الحركة القومية دولت بهشلي، عندما كان في صفوف المعارضة، حبلاً غليظاً باتّجاه حزب العدالة والتنمية عام 2007، داعياً إلى شنق أوجلان بدلاً من إبقائه في السجن. قبل أسابيع رمى زعيم حزب “إيي” اليميني القومي المعارض مساوات درويش أوغلو حبلاً مشابهاً باتّجاه بهشلي الذي يدعو إلى فتح أبواب البرلمان أمام أوجلان ويذكّره بمواقفه السابقة. قد يكون المفكّر القومي غوك ألب محقّاً في ما قاله، لكنّ نقاشات الموضوع الكردي في تركيا بقدر ما هي صعبة على الأكراد، هي صعبة على الأتراك أيضاً.

 

في الحلقة الثانية: أكراد الإقليم مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة!

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…