كثيرة هي آمال البعض في التعويل على الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب للحسم في مسائل، والحزم في قضايا، وعقد التسويات المستحيلة. لم يسبق أن تمّت شخصنة التوجّهات السياسية للإدارة الأميركية، لا سيما في السياسة الخارجية، كما هو الحال مع ترامب. نتحدّث عن “الإدارة” في عهدَي باراك أوباما وجو بايدن الديمقراطيَّين، وقبلهما جورج بوش الأب والابن الجمهوريّان، لكن منذ ولايته الأولى نتحدّث عن “شخص” ترامب وما يريده وما يقرّره مزاجه.
ليس من مبالغة في الحديث عن المزاج في استنتاج سلوك الرجل السياسي وتوجّهاته في داخل البيت الأميركي وخارجه. فلا يملك ترامب تاريخاً سياسياً غير فترة الأربع سنوات التي استغرقتها ولايته الأولى. قبل ذلك عرفته الولايات المتحدة تاجر عقارات يطلّ على الناس من خلال برامج تلفزيونية جعلته معروفاً في إطلالات مثيرة للجدل، أو من خلال قضايا في حياته الشخصية لاحقته حتى حين استضافه البيت الأبيض. أضف إلى ذلك أنّ الرجل أقحم نفسه على الحزب الجمهوري، فلم يكن يمثّله ولا يعُدّ نفسه امتداداً لتاريخه وتراثه في العمل السياسي.
الانتقال إلى التّرامبيّة
تبدو الولايات المتحدة مع فوز ترامب وكأنّها تنتقل من حالة منطقية، مهما انتُقدت، إلى ترامبيّة قد يصعب إعمال المنطق فيها. وحين تراقب ردّ فعل عواصم العالم، من بكين إلى برلين مروراً بموسكو وتلك في الشرق الأوسط، ترى حالة ترقّب من مجهول تسود السلوك العامّ، بحيث لا تعبّر العواصم عن صدق مشاعرها، سواء في الترحيب أم في التحفّظ. فلا أحد يملك علامات عمّا سيفعله الرئيس العائد إلى البيت الأبيض داخل ملفّات العالم الساخنة، لا سيّما في الشرق الأوسط في التعامل مع حروب “الطوفان”، أو في أوروبا في التعامل مع حرب أوكرانيا.
ما نعرفه أنّه “أصدر أوامر” لصديقه بنيامين نتنياهو لإنهاء حروبه في الشرق الأوسط قبل موعد دخوله البيت الأبيض
يروي روبرت كينيدي جونيور، الذي تخلّى عن ترشّحه المستقلّ لرئاسة الولايات المتحدة وانضمّ إلى حملة ترامب والموعود بتقلّد منصب وزير الصحّة، أنّه كان برفقة ترامب في الطائرة، وأنّ الرئيس المنتخب رسم خريطة الشرق الأوسط على ورقة، ثمّ دلّ على مكان وجود القوات الأميركية وتساءل: ماذا يفعلون هناك؟ ثمّ لمّح إلى ضرورة سحبها بدلاً من تركها “وقوداً للمدافع إذا اندلع قتال بين تركيا والمسلّحين الأكراد”.
هكذا في جلسة دردشة يتمّ اتّخاذ شبه قرار بعيداً عن تقويمات البنتاغون وتقديرات أجهزة الاستخبارات. كان ترامب قد قرّر عام 2018 سحب هذه القوات في سياق دردشة هاتفية أجراها مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لكنّ الأمر لم يحصل. صمت ترامب بعد تدخّل من البنتاغون الذي يقرّر ما هو الصالح لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وكأنّ لترامب الرئيس أن يمارس ترامبيّته وللدولة مهمّات التصحيح والتصويب والترميم.
كيف الاهتداء إلى عقائد ترامب؟
عام 2016، وقبل عدّة أشهر من نهاية ولايته الرئاسية ومغادرته البيت الأبيض، أدلى الرئيس الديمقراطي باراك أوباما بسلسلة مقابلات للصحافي الأميركي في صحيفة “ذي أتلانتيك” جيفري غولدبرغ، نشرت تحت عنوان “عقيدة أوباما”. لكن ممّا عرفناه عامّة وما عرفه الأميركيون ممّا صدر من نصوص عن تجربة ترامب داخل البيت الأبيض، ما زال من الصعب الاهتداء إلى عقائد ترامب. صحيح أنّ الرجل أصدر أمراً بسحب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018 وأمر باغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري عام 2020، وصحيح أنّه اتّخذ مواقف في العلاقة مع الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي وزعيمَي روسيا وكوريا الشمالية، لكنّ كلّ ذلك لا يعدو كونه ظواهر تشتّت، لا يمكن الركون إليها لاستخلاص نظرية واحدة لفهم الرجل.
لا شيء في نصوص حملة ترامب الانتخابية يوحي بسمات جليّة لفهم السياسة الخارجية للرئيس الجديد
فيما عيّن ترامب الرئيس في النسخة الأولى أعضاء الإدارة بتغريدة وطرد بعضهم بتغريدة، استعان بأدوات عائلية لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي اعتبره في تصريح شهير “نزاع كأيّ نزاع ولكلّ مشكلة حلّ”. والواضح أنّ الأمر بالنسبة له كان تفصيلاً يسيراً لا يستحقّ أكثر من تكليف زوج ابنته إيفانكا بتدبّر الأمر، فكان أن قاد جاريد كوشنر فريقاً جال على “فرقاء الصراع” ورسم خرائط لـ “صفقة القرن” لم تجد لها داخل واشنطن وعواصم العالم صدى متابعة وترحيب.
قد يتمدّد الأمر نفسه في النسخة الثانية للرجل في التعبير عن اهتمامه بملفّ لبنان وضرورات إنهاء حربه. ولحسن الحظّ تجعل دوافع عائلية من لبنان حاضراً على موائد العائلة. فلا شكّ أنّ تيفاني، ابنة الرئيس، المتزوّجة من مايكل، تلحّ على والدها الاهتمام بلبنان، البلد الذي يتحدّر منه عريسها، وأنّ ترامب سيجد في والد صهره مسعد بولس الرجل المناسب لإنتاج “صفقة قرن” أخرى تنهي “نزاعاً” وتقفل ملفّ الحرب هناك.
لا شيء في نصوص حملة ترامب الانتخابية يوحي بسمات جليّة لفهم السياسة الخارجية للرئيس الجديد. وحتى من خلال هذا الغموض إقرار بأنّ الأمر لا يتعلّق بسياسة الجمهوريين التقليدية المعروفة، بل بشيء لا يمكن توقّعه ولا يقوى الحزب الذي أصبح ترامبيّاً على معاندته.
كثيرة هي آمال البعض في التعويل على ترامب للحسم في مسائل، والحزم في قضايا، وعقد التسويات المستحيلة
ما نعرفه أنّه “أصدر أوامر” لصديقه بنيامين نتنياهو لإنهاء حروبه في الشرق الأوسط قبل موعد دخوله البيت الأبيض، في 20 كانون الثاني 2025. أمّا كيف ذلك وما رأيه في احتمالات توسّعها لتشمل مراحل أكثر خطورة (ضدّ إيران مثلاً)، فلا معلومات شافية. وعد بوقف الحرب الأوكرانية، تحادث قبل أيام مع الزعيمين، الروسي والأوكراني، من دون أن يظهر أنّ الرجلين فهما حقيقة موقف الرئيس الأميركي المقبل من تلك الحرب.
إقرأ أيضاً: ترامب رئيساً.. هل ستغيّر الوعود هذا العالم؟
تتطلّب الحكمة أن لا تتمّ المبالغة في تعليق كوارث الدنيا ومآسيها على مشجب ترامب العائد. والأرجح أنّ الرجل سيتمتّع بممارسة ترامبيّته من دون أن يستطيع أن يحيد عن قواعد الممكن والمستحيل. سيدرك بسرعة أنّ العالم تغيّر جدّاً خلال الأربع سنوات التي غاب فيها عن “القصر”، وأنّ النظام الدوليّ المتحوّل أصبح أكثر تعقيداً من حلّ استعصاءاته بتغريدة أو باجتماع عائلي.
لمتابعة الكاتب على X: