هل يشير فوز ترامب الكبير إلى حالة خاصّة بالولايات المتحدة، أم هو مسار تغييري للنظام العالمي؟ الديمقراطية الليبرالية تعاني من أزمة منذ مدّة بعدما احتفت بسقوط الاتحاد السوفيتي وأفراح العولمة.
هناك عدّة ظواهر خوف جديدة تحدث كلّها في ديار أهل التنوير والتقدّم:
1- الخوف من غرائب التكنولوجيا.
2- الخوف من الهجرات.
3- الخوف على القيم العائلية.
4- الخوف من التحدّيات التي تمثّلها الصين وروسيا. العالم المقبل هو عالم غربي أيضاً، ونظام العيش باقٍ، لكن ليس نظام العالم. إذ هناك احتمال لتغييرٍ كبير يحدث في أميركا وأوروبا وسيؤثّر في العالم كلّه.
هل يظلّ بوسعنا اعتبار ترامب ظاهرة شاذّة أو استثنائية في هذه “العولمة السائلة” بحسب تعبير باومان؟ تماماً مثل بوتين أو رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي أو بعض رؤساء أميركا اللاتينية؟ أم هناك ما يمكن تسميته بمتغيّرات الأزمنة، وهي تعني تغيّر “الباراديغمات” الحاكمة والدخول في ما كان لا يمكن التفكير فيه؟ يمكن بالطبع أن نذكر لنجاح ترامب أسباباً خاصّةً تتعلّق بشخصيّته وثروته وتتعلّق بالأوضاع الاقتصادية، وبالخوف من الهجرات الكثيفة، وبتزايد الحروب، والتهديد الصيني. ويمكن التفصيل فنذكر هجمات القاعدة على الولايات المتحدة، والعواقب السيّئة لغزوتَي أفغانستان والعراق، وأزمة العقارات التي صارت أزمة مالية عالمية 2008-2009، ونهوض “القاعدة” وداعش اللذين أثارا مخاوف أمنيّة كبيرة. أفلا تكفي كلّ هذه الوقائع والأحداث لتطلب شخصية كبيرة كاريزماتيّة تتّخذ قراراتها دون أن تأبه لشيء؟! بالطبع يظلّ الأمر مفهوماً في هذه الحدود وربّما بالاقتصار على الولايات المتحدة.
التغيّر في نظام العالم والنظام الدولي بطيء لكنّه عميق. والانهيار قد يولّد حروباً لا حصر لها
ظاهرة عالميّة
المشكلة أنّ هذه الظاهرة (أي الاندفاع نحو اليمين الراديكالي أو المحافظ) لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل تشمل معظم العالم الأوروبي والآسيوي، ويمكن وصف الظاهرة أو الحالة بأنّها حالة أو عصر “عدم الأمان” أو الخوف الغامض والعميق. إنّه قلق وهواجس المجتمعات والدول الآمنة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي حين كانت هناك ضغوط لتوسيع المجال الحقوقي، والمديات الإنسانية، كان الجذر المعتبر هو جذر التنوير بقيمه وأخلاقه وعلائقه السياسية، والعصر هو عصر العقلنة والمسؤولية الفردية والإنسانية، والطموح هو التقدّم في شتّى المجالات، وبخاصّةٍ المجالات العلمية والتقنية التي تخدم الإنسان وتسهّل عليه حياته.
اعتبر الزمن الليبرالي التنويري الغربي نفسه متفوّقاً من كلّ النواحي على العالم الآخر الذي سمّاه: عالم الستار الحديدي، الذي كان يتحدّى سيطرته. وأزعجت وعي مثقّفيه نقدات مدرسة فرنكفورت في العلوم الاجتماعية والاقتصادية التي أصرّ أعلامها مثل أدورنو وهوركهايمر على أنّ الحداثة الليبرالية تُشيّئُ الإنسان وتغيّب وعيه وإرادته وكرامته وإنسانيته من أجل الأداتيّة الشكليّة التي بلغت الذروة في عصر الذكاء الاصطناعي ووسائل الاتصال.
إنّ هذا الانتصار، الذي حقّقه التحالف في الحرب الثانية مع إخراج السوفيت منه، بنى المؤسّسات الدولية والنظام المالي العالمي ونظام العيش، وقد انتهى هذا التفوّق إلى هدم الاتحاد السوفيتي 1989-1990 وإحلال نظام العالم الجديد محلّه بحسب الرئيس بوش الأب، وكان الخطوة الواسعة التالية التي أطلقت عصر العولمة ونظام السوق، وقد ووجهت العولمة الليبرالية الجديدة بمقاومة من نوعين: الثوران الأصوليّ الذي أغار على برج التجارة العالمي عام 2001 بنيويورك وعلى أوروبا في السنوات اللاحقة، فردّت الولايات المتحدة وتبعها العالم الغربي بإطلاق الحرب العالمية على الإرهاب (الإسلامي) وغزو أفغانستان والعراق، وقد ولّد الصراع حرباً أهليّةً طائفيةً بالعراق، وظهر “القاعدة” وداعش اللذان استوليا على أجزاء واسعة من العراق وسورية وأقاما دولة الخلافة التي أُسقطت من جانب النظام الدولي (2014-2019). وانتهى الأمر بوقوع العراق وسورية تحت السيطرة الإيرانية التي نشرت ميليشياتها في سورية والعراق ولبنان واليمن.
اعتبر الزمن الليبرالي التنويري الغربي نفسه متفوّقاً من كلّ النواحي على العالم الآخر الذي سمّاه: عالم الستار الحديدي
أحدث كلّ هذا الاضطراب الجيوسياسي اختلالاً كبيراً في النظام العالمي حيث تكاثرت الحروب وتحطّمت الدولة العربية بالمشرق على وجه الخصوص.
مقاومة النوع الثاني كانت مقاومةً فكريةً وثقافية. فقد تحطّمت تحت وطأة الحروب التي شنّها كبار نظام السوق سمعة وواقع الليبرالية الاقتصادية والسياسية والثقافية التي دعا لها ومنحها حقّ نظام العالم الأخير الديمقراطي والإنساني كلٌّ من فوكوياما وهانتنغتون. كلّ كبار الاقتصاديين تحت وطأة الأزمة العقارية بالولايات المتحدة 2008-2009 قالوا بفشل فقاعة نظام السوق. في حين مضى مفكّرو تيّار التابع (subaltern) في إدانة أصول أفكار التنوير والتقدّم والليبرالية التي غطّت أنظمة الاستعمار وتغطّي هجمات الأنظمة الغربية على العدالة وسلام العالم وأمنه.
ترامب والخوف المجتمعيّ
كانت هذه الفذلكة الطويلة لمشكلات النظام العالمي (الغربي) للإجابة على أسباب النجاح الكبير لدونالد ترامب. الانتصار الكبير ليس شخصياً فقط، بل هو ناجمٌ عن تطوّراتٍ خلال أكثر من ثلاثة عقود. في أوروبا صعدت تيارات اليمين الراديكالي التي سيطرت على الحكومات وهجمت على قيم التنوير وعلى الهجرة ودعت إلى الانكماش وحفظ الهويّة والثروات الوطنية من الغرباء. وهو وعيٌ كاسحٌ استعلى في الولايات المتحدة وبلدان حلفائها في كندا وأستراليا مثل أوروبا.
هل يظلّ بوسعنا اعتبار ترامب ظاهرة شاذّة أو استثنائية في هذه “العولمة السائلة” بحسب تعبير باومان؟
الحرب الدائرة بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة والتي صار ترامب رمزاً لها تسلك المسار نفسه، وتظهر فيها المحافظة على القيم التقليدية في الأُسرة والمجتمع وتعادي ثقافة الجنوسة وتغيير الجنس والإجهاض. وهكذا ما أراه هو في جوهره خوفٌ غلّابٌ من جانب فئات مجتمعية واسعة تتّخذ عناوين اليمين واليسار وتدور في كلّ أسرةٍ في المجتمعات الغربية وسط الحداثة الجارفة والرأسمالية المحطِّمة لكلّ قيود وشروط الانضباط. والأحزاب السياسية ذات الأصول والمصالح المختلفة تتصارع على أصوات الناخبين، ويفوز في السباق أعداء الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وإذا كانت هموم الهويّة وتصدّعاتها تلعب أدواراً بارزةً في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، فهي تلعب أدواراً أيضاً ما كانت لها في أوروبا وأميركا. يقول المحلِّلون لنتائج الانتخابات الأميركية إنّ الاقتصاد يلعب الدور الأوّل، لكنَّ الأبعاد الأُسريّة والخصوصيات الإثنية والدينية تلعب دوراً بارزاً، كما سبق القول أيضاً.
ترامب ووقف الحروب؟
بعد هذا الكلام الطويل عن متغيّرات الأزمنة التي هي في العمق إنكارات وارتدادات على تصوّرات التنوير وشذوذاته وتشوّهاته، يأتي السؤال الضروري: ماذا سيؤثّر ترامب في النظام العالمي؟ وماذا سيؤثّر في الشرق الأوسط؟ تقدّم الرجل بوعودٍ كثيرة أبرزها أنّه سيُنهي كلّ الحروب. وأنا بالرجوع إلى فترته الأولى ومفاجآته السلبية خلالها قلت في مقالةٍ بجريدة الشرق الأوسط إنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية أيّاً يكن الفائز فيها لن تؤثّر على الصراع الجاري مع إسرائيل لأنّ كلا الحزبين في الانتخابات يتنافسان في إرضاء نتنياهو. وما عدتُ على ذلك الجزم لأنّ هناك عدّة فرقاء لا فريقاً واحداً حتى في إسرائيل، وقد يجد ترامب ومحيطه أنّ في وقف الحرب مصلحةً لإسرائيل، وإيقافاً للمذابح ولو كفترة انتظار يستطيع ترامب خلالها أن يقول إنّه اختلف فيها عن بايدن بوقف الحروب فعلاً.
الحرب الدائرة بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة والتي صار ترامب رمزاً لها تسلك المسار نفسه
إنّ الأهمّ هو ما سيحصل في النظام العالمي، والحرب الروسية – الأوكرانية أبرز اختلالاته. وإلى ذلك الصراع الأميركي – الصيني على تايوان، وفي التنافس التجاري، وأخيراً النووي الكوري، والنووي الإيراني. إيران بحرب الإسناد لغزّة عجّلت على نفسها فلا بدّ أن يُحسم النووي بأيّ طريقة خلال عام 2025 أو تهاجم إسرائيل المنشآت بدعمٍ من أميركا. أمّا النووي الكوري وعلى الرغم من طرائق الزعيم، فإنّ هيبة الصين ستحول دون زيادة التوتّر، على الرغم من ذهاب الكوريين إلى روسيا لمساعدتها ضدّ أوكرانيا.
في بقيّة الأمور الصين ليست مستعجلة، وإنّما المستعجل بوتين صديق ترامب. فقد راهن على الانتصار منذ عام 2022 وفي شهور قليلة. وجيشه يتقدّم لكن ببطء، وقد أخلَّ ذلك بهيبة الجيش وهيبته هو، وكما يحتاج الأوكرانيون بشدّة إلى هدنة أو وقف للنار، فإنّ بوتين ليس أقلّ حاجة، وقد صار عاراً الاستعانة بقوّات فاغنر ومسيّرات إيران وفروسيّة الشيشان والآن بالكوريين. كان المنتظر أن يفعل الصينيون شيئاً لكنّهم لم يفعلوا، فهل يمكن أن يتعاون الطرفان الأميركي والصيني لوقف مأزق حليفَيهما؟ المرجّح أن لا يحصل ذلك. أمّا لو أقدم ترامب على خذلان أوكرانيا، كما هو المتوقّع، فقد يؤدّي ذلك إلى تصدّع الاتحاد الأوروبي الذي لا يحبّه ترامب كما لا يحبّ الأطلسي.
إقرأ أيضاً: هل يكون استقبال الجديد ممكناً؟
التغيّر في نظام العالم والنظام الدولي بطيء لكنّه عميق. والانهيار قد يولّد حروباً لا حصر لها، وإن يكن جماعة البريكس يريدون تطوير النظام العالمي بدون حروب.
لمتابعة الكاتب على X: