صدر عن القيادات السياسية التركية والروسية في الآونة الأخيرة تصريحات متناقضة حول ملفّات ثنائية وإقليمية مشتركة تعني الطرفين، الشقّ السوري فيها كانت له الأولويّة دائماً بحكم مصالح البلدين التي التقت أحياناً وتباعدت أحياناً أخرى. فما حقيقة هذا التناقض؟ وما هي أسبابه؟
تدرك تركيا أهمّية إنهاء الخلاف مع نظام الأسد لتسريع قطع الطريق على مشروع “قسد” الأميركي في شرق الفرات، وللتخفيف من تأثير إيران في سوريا وسحب ورقة تحريك إسرائيل الملفّ الكردي بشقّه الإقليمي ضدّها.
لكنّ الواقع على الأرض يتحدّث أيضاً عن وجود الكثير من العقبات والعوائق في طريق طاولة الحوار المباشر التركية السورية، وأنّ موسكو لوحدها لن تتمكّن من تبديدها، هذا إذا كانت راغبة في ذلك فعلاً.
في هذا السياق، ردّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على تصريحات نظيره الروسي سيرغي لافروف الأخيرة حول تطوّرات المشهد السياسي في سوريا، عبر الصحيفة والصحافية نفسَيهما.
اللافت طبعاً أن يتمّ ذلك خلال ساعات فقط وبعد أيّام معدودة على تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حول الانسداد الحاصل في الملفّ السوري، وفي هذا السياق لا يجوز تجاهل ما قالته بثينة شعبان المستشارة الخاصة للرئاسة السورية: “تركيا استخدمت مسألة التقارب مع سوريا إعلامياً لمصلحتها، بهدف تحقيق مكاسب داخلية، أو مكاسب في المنطقة، على الرغم من أنّنا لم نقُل إنّ عليهم الانسحاب فوراً بل الإقرار بمبدأ الانسحاب”.
ماذا جرى على خطّ أنقرة – موسكو في الأيّام الأخيرة؟
– البداية أوّلاً مع ما قاله الرئيس التركي في طريق عودته من قمّة “بريكس” وهو يطلب من نظيره الروسي فلاديمير بوتين مساعدته في التواصل مع بشار الأسد: “تأثير موسكو على دمشق معروف، فلنترك لها الوقت لتجيب عمّا إذا كان السيّد بوتين سيطلب من الأسد اتّخاذ هذه الخطوة”.
لا أحد في تركيا يراهن على الأسد للوصول إلى المطلوب، لأنّ الأخير لا يملك إمكانات وفرص طمأنة تركيا في هذه الملفّات
– ثمّ تعقيب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على كلام الرئيس التركي ليكشف بدوره عن توقّف التفاوض بين أنقرة ودمشق. “تركيا وسوريا تبديان رغبة جادّة في استئناف الحوار، وموسكو ستسهم بنشاط في استئناف المفاوضات بين الدولتين”.
لكنّ دمشق تصرّ على ضرورة اتّخاذ قرار بانسحاب الوحدات العسكرية التركية من أراضي الجمهورية العربية السورية قبل أيّ حوار. كان لافروف نفسه يردّد في أواخر شهر آب المنصرم أنّ “الجانب التركي مستعدّ لمناقشة انسحاب القوات، لكن حتى الآن لا يمكن الاتفاق على معايير محدّدة”.
– بعدئذٍ ردّ فيدان على لافروف: “نظام الأسد وشركائه غير مستعدّين للتوصّل إلى اتفاق مع المعارضة وتطبيع كبير مع أنقرة. فتركيا تريد أن ترى النظام والمعارضة ينشئان إطاراً سياسياً يمكنهما الاتّفاق عليه في بيئة خالية من الصراع”.
صعّدت القوات الروسية من عمليّاتها العسكرية في شمال غرب سوريا مع انتشار أنباء عن احتمال قيام قوات المعارضة السورية بتمدّد باتّجاه مواقع قوات النظام نتيجة الأوضاع العسكرية والأمنيّة القائمة في المنطقة. الرسالة هي لأنقرة بقدر ما تعني الفصائل السورية هناك. تحصّن أميركا قواعدها العسكرية في شمال شرق سوريا. وهناك من يتحدّث عن طائرات شحن تهبط يومياً في القواعد العسكرية الأميركية، حيث يجري نقل التعزيزات والأسلحة إلى قوات “قسد” المنتشرة على مقربة من قاعدتَي معمل كونيكو للغاز وحقل العمر النفطي في ريف دير الزور.
بالمقابل تسمح موسكو لتل أبيب بمهاجمة من تريد داخل الأراضي السورية، لكنّها تعترض على تحرّك الفصائل السورية المعارضة ضدّ النظام. هناك مشكلة أساسية في الحوار التركي الروسي بعد الآن. فهل تقرّر تركيا في ضوء كلّ ذلك التخلّي عن تفاهماتها الثنائية والمتعدّدة الأطراف مع موسكو، خصوصاً بعد اتفاق آذار 2020 حول خفض التصعيد وما سبقه من تفاهمات في عامَي 2017 و2018؟
قد تساعدنا نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الإجابة على الكثير من التساؤلات حول مسار العلاقات التركية الروسية، لكنّ هناك من يحاول قطع الطريق عليها
يقول نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر بانكين: “نحن راضون عن المستوى العالي للعلاقات الروسية التركية الذي وصلنا إليه، وذلك بفضل قدرة شعبَينا على تجاوز الخلافات وإيجاد نقاط النموّ على مدار التاريخ حتى في الأوقات الصعبة منه”. ويتوقّف عند “ظهور آفاق استراتيجيّة للعلاقات بين روسيا وتركيا في مختلف المجالات”. بالمقابل يعلن وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار أنّ المحادثات جارية مع روسيا للاتفاق بشأن إقامة مركز لتجارة الغاز، وأنّ “المركز قد يبدأ العمليات في إسطنبول عام 2025 في خطوة من شأنها تعزيز الحضور التركي في مجال الطاقة على المستوى الإقليمي”. ستخفّف الخطوة حتماً من العزلة ومن تداعيات العقوبات على قطاع الطاقة الروسي. هل يمكن لمن يناقش ملفّات استراتيجيّة بهذا الحجم مع الكرملين أن يترك التباعد في الملفّ السوري يطيح بكلّ ما بناه من مداميك بهذا الاتّجاه؟
لا أحد في تركيا يراهن على الأسد
ينبّه بعض الأتراك إلى أنّ النظام في دمشق لن يعطي أنقرة ما تريده في 3 مسائل أساسية تتعلّق بالملفّ السوري: ضمانات أمنها الحدودي، الحؤول دون مشروع التقسيم في سوريا، تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وأنّه بسبب ذلك قد تكون لدى الجانب التركي خيبة أمل نتيجة الرهان على بشار الأسد.
– الحقيقة هي أن لا أحد في تركيا يراهن على الأسد للوصول إلى المطلوب، لأنّ الأخير لا يملك إمكانات وفرص طمأنة تركيا في هذه الملفّات.
– حقيقة أخرى هي أنّ تركيا ترجّح مفاوضة موسكو وواشنطن والعديد من العواصم الإقليمية قبل مفاوضة الأسد، لأنّها تدرك استحالة أن يعطيها النظام السوري ما لا يمتلك القرار فيه.
التعاون العسكري التقني بين تركيا وأوكرانيا أمر مثير للاستغراب نظراً لرغبة أنقرة في التوسّط في الصراع الروسي الأوكراني”
– والحقيقة الثالثة هي أنّ ما يقوله وزير الخارجية التركي مغاير تماماً ويذهب باتّجاه آخر. يتحدّث عن عدم رغبة دمشق بإجراء حوار حقيقي مع المعارضة السورية والدخول في مسار المصالحة والتطبيع مع تركيا، وأمّا التفاوض حول المسائل الثلاث التي تريد أنقرة الوصول إليها فيتمّ مع اللاعبين الإقليميين المؤثّرين في الملفّ السوري اليوم، وقوّة تركيا لناحية حماية مصالحها في سوريا مرتبطة بقدرتها على التفاوض مع هذه الأطراف.
ما يستدعي تركيّاً التعامل معه بجدّية هنا ليس تجاوز العقبات الروسية أو الأميركية أو الإيرانية فقط، بل العقبة المحلّية في الداخل السوري نفسه، التي تتطلّب قول الجديد ومراجعة المواقف والسياسات والقراءات والسيناريوهات المحتملة حول الوضع القائم في شمال سوريا.
قد تساعدنا نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الإجابة على الكثير من التساؤلات حول مسار العلاقات التركية الروسية، لكنّ هناك من يحاول قطع الطريق عليها. فأوّل ارتدادات التوتّر التركي الروسي في سوريا والقابلة للتمدّد باتّجاه الملفاّت الإقليمية هي تصريحات لافروف التي تقول: “تستخدم القوات المسلّحة الأوكرانية الأسلحة التركية لقتل العسكريين والمدنيين الروس.. والتعاون العسكري التقني بين تركيا وأوكرانيا أمر مثير للاستغراب نظراً لرغبة أنقرة في التوسّط في الصراع الروسي الأوكراني”.
لو كان بشّار الأسد عاقلاً..
يقول الإعلامي التركي تونجا بنغين: لو كان بشار الأسد عاقلاً لقبِل فوراً العروض التركية المقدّمة له حول مسار الحلحلة والتفاهمات بين البلدين. لماذا لا نفترض أنّ الأسد وجد مصلحة بلاده في مكان آخر ومع طرف بديل قدّم له أكثر ممّا ستعطيه أنقرة؟ ولماذا نتجاهل أنّ الأسد لا يملك قدرة اتّخاذ القرار الذي يعني سوريا بمفرده وبمعزل عن التحالفات التي بناها في العقد الأخير وبحسب متطلّبات الوضع السياسي والاقتصادي والميداني؟
ينبّه بعض الأتراك إلى أنّ النظام في دمشق لن يعطي أنقرة ما تريده في 3 مسائل أساسية تتعلّق بالملفّ السوري
حمل تبادل الرسائل التركية الروسية الأخيرة حول العلاقات وتضارب الخيارات في التعامل مع العديد من الملفّات الإقليمية الكثيرَ من التساؤلات حول ارتدادات ذلك على سياساتهما السورية واحتمال دخولها نفق التصعيد الإقليمي وسيناريوهات الشرق الأوسط الجديد التي يردّدها البعض. قد لا تكون المشكلة في تصلّب النظام السوري وقدرته على مواجهة ما تقوله وتريده موسكو حول العروض التركية، بل بين أنقرة وموسكو وانعدام الثقة بما يجري من وراء الستار وبعيداً عن الأعين.
إقرأ أيضاً: لماذا يحذّر إردوغان من المخطّط الإسرائيليّ في سوريا؟
لا يدخل سيفان في غمد واحد. ستجد أنقرة صعوبة في إقناع واشنطن وموسكو بالوقوف إلى جانبها في سوريا، لأنّ مصالح الأطراف وحساباتهم متباعدة متناقضة هناك. فرصتها الوحيدة في دفع الجانبين نحو طاولة حوار ثلاثية ما زالت مستبعدة حتى الآن. لكنّ البديل الأخطر سيكون عند حدوث تفاهمات ثنائية أميركية روسية مشتركة على حسابها.
لمتابعة الكاتب على X: