لم تقصّر إدارة جو بايدن في الحركة الاستعراضية لوقف الحرب.
كما لم تقصّر في تزويد إسرائيل بكلّ ما يلزم لإدامتها والفوز فيها. وهذه الثنائية كانت أحد أسباب سقوطها وسقوط مرشّحتها كامالا هاريس، ونجاح دونالد ترامب وانتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.
بقي لإدارة بايدن سبعون يوماً هي الفترة الانتقالية لما يسمّى عندنا بـ”التسليم والتسلّم”. هي فترة زمنية قليلة للغاية لا تكفي لإحراز إنجاز تنسبه الإدارة الديمقراطية لنفسها، إلا أنّها بالمقابل فترة نموذجية للفائز المكتسح ترامب، الذي تموضع أثناء حملته وبعد فوزه في موقع المتربّص بالنتائج للاستيلاء عليها، بعدما برّأ نفسه من الضلوع في مسبّباتها. وذلك حين كرّر القول: لو كنتُ رئيساً لما اشتعلت الحرب في الشرق الأوسط ولا في أوروبا. وحين قال إنّه الرجل الذي أرسلته الأقدار لإنهاء الحروب في العالم كلّه.
يعود ترامب إلى البيت الأبيض بثلاثية مبهرة، بحيث لم يظفر بالبيت الأبيض فقط بل وبمجلسي النواب والشيوخ. وبهذه العودة يكون امتلك أهمّ مغريات ديكتاتوريّة من نوع خاصّ. فمن يجرؤ على الوقوف أمامه في أيّ قرار يتّخذ في ما يتّصل بالسياستين الداخلية والخارجية؟
بقي لإدارة بايدن سبعون يوماً. هي فترة زمنية قليلة للغاية لا تكفي لإحراز إنجاز تنسبه الإدارة الديمقراطية لنفسها
تغيير يطال العالم كلّه
في خطاب النصر بشّر رعيّته الأميركية بأنّه يحمل تفويضاً بتغيير أميركا والعالم، وسوف يمضي قدماً في ما فعل خلال سنوات حكمه الأربع ولم يكتمل. فهذه السنوات التي جاءت ببايدن رئيساً كعقاب لترامب يراها مجرّد برهة زمنية عابرة، اغتُصب فيها البيت الأبيض منه، وها هو يستعيده على نحو يثبت روايته بتزوير الانتخابات وإقصائه ظلماً وتآمراً عن الموقع الذي صُمّم له، ولا يرى غيره جديراً به.
ترامب بعدما تقبّل التهاني من العالم كلّه، سينهمك خلال الأيام السبعين في ترتيب إدارته التي ستكون بمنزلة أركان حرب تنفّذ قراراته بولاء مطلق له، قبل القانون والدستور، وتنفّذ بالمقابل أوسع عملية انتقامية ممّن صنّفهم متآمرين عليه. وهل بغير نهجٍ كهذا تتغيّر أميركا ويحمل التغيير بصمات الرئيس المفوّض؟
وحين تتغيّر أميركا فسوف يطال التغيير كلّ العالم.
هكذا في ما يبدو يفكّر ترامب ويعمل. لكن دعونا هنا نحتكم للقدرة وليس للرغبة. حين منحته الانتخابات تفوّقاً كاسحاً على إدارة كسيحة، كان السبب الأساس ضعف المنافس التقليدي والدائم، فقرأ الفائز الحالة بقدرٍ مبالغ فيه من النرجسية وفسّر الظواهر بمنطقه الخاصّ.
أميركا والعالم ونحن في القرن الحادي والعشرين نقف على رمال متحرّكة حيث لا نفوذ ثابت وراسخ لأيّ قوّة، سواء كانت نووية أو تقليدية
هل ينهي الحروب فعلاً؟
أميركا والعالم ونحن في القرن الحادي والعشرين نقف على رمال متحرّكة حيث لا نفوذ ثابت وراسخ لأيّ قوّة، سواء كانت نووية أو تقليدية. لقد طرح برنامجاً داخلياً وخارجياً، مانحاً نفسه عصاً سحرية ما، فيكفي أن يقول للشيء كن فيكون مع أنّ كلّ بند من بنود برنامجه محاطٌ بمعيقات وتحدّيات لا قبل له بتجاوزها والتغلّب عليها. ولنترك البنود المتعلّقة بالشأن الأميركي الداخلي وبعلاقات أميركا الكونية ولنقتطع منها بنداً يهمّنا وهو: كيف سينهي الحروب في الشرق الأوسط؟ وهل ينجح فعلاً في تحقيق أمر يكاد يكون معجزة؟ أم تراه سيتراجع عن أساس برنامجه الشرق الأوسطي الذي اعتبر فيه إسرائيل قدس الأقداس واعتبر نتنياهو ملك الملوك والحليف الوحيد الذي يستحقّ الدعم والرهان والتبنّي؟
ألم يكتب بنيامين نتنياهو بيده وفي مكتبه صفقة القرن، ولم يكن للرئيس ترامب من دور فيها سوى إعلانها والتعهّد بتنفيذها؟
سؤال آخر أقلّ عمومية: هل بمقدوره المضيّ قدماً في تنفيذ اتفاقات “أبراهام” بتطبيعٍ شاملٍ بين دول المنطقة وإسرائيل، دون أن يلزم الدولة العبرية بتقديم ثمن مكافئ للمزايا التي ستحصل عليها وعنوانها كما حدّدته المملكة العربية السعودية: الدولة الفلسطينية المستقلّة.
إقرأ أيضاً: ترامب رئيساً.. هل ستغيّر الوعود هذا العالم؟
لا جدال في أنّ فوز ترامب كان نوعيّاً وكاسحاً وتنطبق عليه كلّ الأوصاف المشرقية في المبالغة. غير أنّ يقينه بتغيير أميركا والعالم ليس فقط مبالغاً فيه، بل جنونيّ. فالعالم ليس فارغاً في انتظار أن يملأه ترامب. أمّا الشرق الأوسط الذي يهمّنا فوقف الحروب فيه يحتاج إلى ما لا يستطيعه ترامب أو ما لا يرغب به، وهو وضع إسرائيل في حجمها الطبيعي، دون أن يواصل رؤيته للشرق الأوسط الصعب والخطر بعين نتنياهو، ومن هم على شاكلته.