قوافل النّازحين… وفكرة “السّلام” المُلتبس

مدة القراءة 7 د

منذ 17 أيلول الماضي يوم شرعت إسرائيل في حربها ضدّ الحزب عبر تفجير أجهزة البيجرز والتوكي ووكي، بدأ النزوح الداخلي من جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية والبقاع وبعلبك نحو المناطق اللبنانية الأكثر أمناً. ومن دون التبصّر بأحوال لبنان ومهالك الحرب لدور بلدٍ يمكنه الرجوع إلى “مبادرة بيروت” العربية للسلام في عام 2002، التي طرحتها المملكة العربية السعودية، وجوهرها إرجاع الأرض مقابل السلام، حتى أضحى الأخير ملتبساً بالمعنى والمضمون.

شكّل النزوح المتأتّي عن الهجمات الإسرائيلية مادّة انقسام بين اللبنانيين شأنه شأن الحرب التي ولجها الحزب ضدّ إسرائيل منذ 8 تشرين الأول 2023 وسمّاها “مشاغلة وإسناد” لغزة ولحركة حماس فيها، حتى أضحت حرباً على لبنان تعاظم في مقابلها الاعتراض بلهجته التي صدرت عن قوى معارضة تشكّلت عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

كما أنّ حلفاء الحزب وقفوا إلى جانبه وفقاً لمعيار مصلحيّ على حساب النظام اللبناني والدستور ووثيقة الوفاق الوطني. الوضع منذ حينه يُغَيّب مبادرة بيروت للسلام والشرعيّتين العربية والدولية.

شكّل النزوح المتأتّي عن الهجمات الإسرائيلية مادّة انقسام بين اللبنانيين شأنه شأن الحرب التي ولجها الحزب ضدّ إسرائيل منذ 8 تشرين الأول 2023

نهضت  المعارضة آنذاك على خطاب يعترف بدور الحزب. لكنّه كان خطاباً يصدّع الحياة السياسية الوطنية، ولا يذهب إلى نفي الدور والوظيفة عن وكيل إيران في لبنان ليعرّيه من سرديّته الزاعمة حماية لبنان بدعم من طهران الدولة والثورة. ذلك أنّ الحرب أتت على معنى ووظيفة الحزب حتى كوكيل لجمهورية خامنئي على الحدود مع إسرائيل.

عليه بقي الوضع الداخلي موقوفاً على مبادرة إنقاذية تحمي كلّ لبنان ولا تستثني مكوّناً من مكوّناته. وهذه المبادرة جوهرها الدستور ووثيقة الوفاق. فلكلّ منّا أن يتجاوز القرارات الأممية 1559 و1680 و1701، لكنّ أحداً لا يمكنه القفز على مفهوم الدولة وقوانينها. فالحرب صدّعت الدولة، إضافة إلى تصديع معنى الحزب ووظيفته اللذين فرضهما على اللبنانيين.

بعد عام 2005 واغتيال الرئيس رفيق الحريري حصل أن تشكّلت الحياة السياسية حول عمود فقري اسمه الحزب. في حينه تكوّنت موالاة له، في مقابل تشكُّل قوى معارضة له

قلق النّزوح وأهواله

هناك وجهتا نظر في لبنان بإزاء النازحين:

ـ الأولى تقول إنّ تدبّر أمر هؤلاء هو مسؤولية الحزب لأنّه السبب المباشر لهذه الظاهرة. ولا علاقة للدولة المُفلسة والمنهارة بنيوياً واقتصادياً. وهو الذي أدخل البلد وأهله في حربٍ لا ناقة له فيها ولا جمل. وتستند هذه الوجهة إلى أنّ لبنان برمّته كان أوّل من دفع الثمن للقضية الفلسطينية، سواء بإسناد حركة التحرير الفلسطينية أو الاستقواء بسلاح منظّمة التحرير على الداخل اللبناني، وذلك منذ عام 1969 يوم جرى التوقيع على اتفاقية القاهرة.

ـ أمّا الثانية فتستند إلى أنّ التضامن مع السجين لا يعني الموافقة على فعلة السجّان. وبالتالي مهما كانت الأسباب، لا يُحاكم النازح ولا طائفته التي نجح الحزب في اختزالها رغماً عنها. صحيح أنّ وجود الحزب هو وجود خطير، لكنّه ما عاد كذلك منذ 17 أيلول. إذ فقد وظيفته وتصدّع دوره في الحياة السياسية الوطنية. وكان في السابق يشكّل مادّة للخلاف العقاري، والقانوني، والاجتماعي، والأهليّ، والأمنيّ، والعسكري.

يشي هذا الانقسام اللبناني بوجود خلاف يشير إلى ارتفاع احتمالات وقوع توتّر داخلي، على الرغم من أنّ ربح جماعة وخسارة أخرى يعنيان هزيمة الفكرة اللبنانية وأهمّ بنودها العيش المشترك. وكانت هذه الحال تظهر في أيام غلبة الطوائف بعضها بعضاً واستدراج الخارج للاستقواء به على الداخل.

صحيح أنّ هناك تراجعاً أيضاً في المسرح السياسي القديم، لكنّه تراجع نحو اللاشيء، علماً بأنّ وظيفة الحزب القديمة انتهت

سلاح الحزب بين الغواية والقدرة

بعد عام 2005 واغتيال الرئيس رفيق الحريري حصل أن تشكّلت الحياة السياسية حول عمود فقري اسمه الحزب. في حينه تكوّنت موالاة له، في مقابل تشكُّل قوى معارضة له. لكنّه بقي الحدث الأساسي. والحديث كان عن الحزب، فيما الموالاة له ومعارضته لم ترتّب خطابها السياسي على أساس موضوع الضمان الاجتماعي أو معضلة فرز النفايات أو مسألة إصلاح قطاع الاستشفاء في لبنان، أو في كيفية تطوير القطاع المصرفي في لبنان.

كان الفرز الأساسي بالبلد حول هذا السلاح وحول الهيمنة الإيرانية، وحول ما إذا كان هناك من يعتبر عن حقّ أنّ هذا السلاح مانع لقيام دولة في لبنان. هناك من اعتبر أنّ هذا السلاح أكبر منّا ولا نقدر عليه، وهذا يجب أن ينحلّ في ظروف إقليمية معيّنة، فلنتكيّف معه من أجل أن نمرّر المرحلة. وهذا الأسلوب اتُّبِع مع منظّمة التحرير الفلسطينية من خلال اتّفاق القاهرة في عام 1969. وهو ما ساهم في دخول لبنان حرب 1975. واتُّبع في 1992 مع سلاح الرئيس السوري حافظ الأسد في لبنان الذي أدّى إلى اغتيال الحريري وما نتج عن هذا الاغتيال. واليوم هناك المساكنة بين الجمهورية اللبنانية وسلاح إيران، الأمر الذي ساهم في اندلاع الحرب مع إسرائيل.

وجود الحزب تقني دون دور

صار على الحزب أن يتراجع بعد إقراره واعترافه بأنّ الخشونة الإسرائيلية في الهجوم على لبنان، بالتوازي مع سكوت المجتمع الدولي عنها، هي خشونة غير مسبوقة من تل أبيب وتشير بوضوح إلى أنّ هناك قراراً كبيراً جداً على مستوى العالم وينفّذه بنيامين نتنياهو.

صحيح أنّ هناك تراجعاً أيضاً في المسرح السياسي القديم، لكنّه تراجع نحو اللاشيء، علماً بأنّ وظيفة الحزب القديمة انتهت، سواء في أن يكون جوهر الحياة السياسية أو كونه رأس حربة إيران بالمنطقة ودرّة تاج النفوذ الفارسي الذي أوصل طهران ونفوذها إلى البحرين الأحمر والأبيض المتوسط ووضع يدها على أربع عواصم عربية. هذا انتهى. صحيح أنّ الحزب ما يزال موجوداً تقنيّاً، لكنّ وظيفته ودوره انتهيا.

أمّا إنقاذ البلد فيتبدّى في اللجوء إلى الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، وهما أسبق على القرارات الأممية 1559 و1680 و1701، وبالتالي معالجة مسألة النازحين وترسانة سلاح الحزب، بمعزل عن الحاجة إلى تعديل الدستور وإدخال عليه تعديلات أو إصلاحات، وهذه تصبح عاديّة يوم يعود البرلمان إلى دورات انعقاده.

“مبادرة السلام مقابل الأرض” تعني الخروج من الحرب والعنف إلى الاستقرار وبناء المستقبل. ومتى انحاز لبنان إلى هذه الفكرة فإنّ ذلك يعني استدعاء انتباه العالم برمّته

السّلام المُلتبس

الخروج من هذه الأزمة القائمة حالياً والانتقال من موقع المعارضة أو الموالاة إلى منطق إنقاذ لبنان، أي العبور به في هذه المرحلة الانتقالية، لا يمكن بغير اللجوء إلى المبادرة العربية للسلام في قمّة بيروت عام 2002، وإزالة الالتباس عنها بوصفها استسلاماً لإسرائيل، بل هي تحرِّر الأرض المحتلّة وتشكّل فرصة لإقامة الدولة الفلسطينية.

مبادرة السلام هي ضرورة لأنّ اللبنانيين، العرب كما ينصّ دستورهم، عليهم أن يبتكروا “فكرة السلام” في هذه المنطقة. إنّما ليس السلام المنفصل عن نظام المصلحة العربية. بل السلام الذي هو في صلب نظام المصلحة العربية. وهذا مشروع للمستقبل ممكن أن يتمحور حوله جزء من اللبنانيين، وممكن أن يواجهه آخرون يعتبرون أنّهم يريدون رمي اليهود بالبحر وتكملة الحرب مع حركة حماس.

حلفاء اللبنانيين هم العرب والعالم العربي. وهؤلاء ليسوا قلّة. ذلك أنّهم ليسوا حلفاءهم بالسياسة من دون فكرة السلام التي ترتكز على الآتي:

1 ـ تبنّاها أصحاب الشأن الفلسطيني والسلطة الفلسطينية.

2 ـ موجودة وراسخة في اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.

3 ـ موجودة وراسخة باتفاق “وادي عربة” بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل.

4 ـ موجودة وراسخة بالاتفاق الإبراهيميّ بين الإمارات وإسرائيل.

5 ـ تبنّي المملكة العربية السعودية لمبادرة السلام في بيروت التي أطلقها الملك الراحل عبدالله يوم كان وليّاً للعهد.

إقرأ أيضاَ: العيش مع “الحزب”… ومن دونه؟

أمّا حلفاء الفكرة بالخارج، أي بدوائر القرار الغربية، فلا عدّ لهم ولا حصر. ذلك أنّ “مبادرة السلام مقابل الأرض” تعني الخروج من الحرب والعنف إلى الاستقرار وبناء المستقبل. ومتى انحاز لبنان إلى هذه الفكرة فإنّ ذلك يعني استدعاء انتباه العالم برمّته.

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…