رياح المنطقة لا تسير بما يشتهي الأردن

مدة القراءة 8 د

عمّان

قبل التطوّرات الأخيرة والعدوان الإسرائيلي على لبنان، سافر الزميل أمين قمّورية إلى الأردن للقيام بجولة للوقوف على حجم التحدّيات التي تواجهها المملكة والهجمة الإسرائيلية عليها لفهم الوجهة التي يتّجه إليها الأردن.

في الحلقة الثالثة اليوم نتناول كيف تواجه الدولة الأردنية التحدّيات السياسية الداخلية والخارجية التي تواجهها؟

لا تجري الرياح في المنطقة بما تشتهي عمّان. المخطّطات اليمينية الإسرائيلية التي تنفّذ في فلسطين تهدّد المصالح العليا للأردن وأمنه القومي. كرة النار المشتعلة في غزة ولبنان ليست بعيدة عنها. الخطر على الضفة الغربية يصيب قلبها. المواجهة الإيرانية الإسرائيلية تضعها بين نارين ومحورين. احتمال وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض يوقظ مخاوفها من تجديد “صفقة القرن” التي أطلقها أثناء تولّيه الرئاسة الأميركية السابقة. تدرك أنّ كلّ ما يقال عن سعي الإدارة الأميركية الديمقراطية إلى وقف الحرب والتهدئة ليس حقيقياً ولا جادّاً، وأنّ واشنطن فعلاً لا ترى ضيراً في أن تواصل إسرائيل حروبها لتعزيز نفوذها الإقليمي والتخلّص من أعدائها بشرط ألّا تصل الأمور إلى حدود الحرب الكبرى التي قد تشغلها عن صراعها مع روسيا في الملفّ الأوكراني ومع الصين في المسألة الاقتصادية.

فيما تنادي عمّان بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلّة عام 1967، تعمد إسرائيل إلى نسف الفكرة من أساسها بجعل قطاع غزة أرضاً محروقة غير قابلة للعيش، وبتعزيز الاستيطان والتهويد وقضم الأراضي في الضفة الغربية والقدس الشرقية وضمّ غور الأردن وفرض واقع احتلاليّ جديد. ويرى الأردن أنّ فكرة يهودية الدولة الإسرائيلية التي أقرّها الكنيست عام 2018، ليس من شأنها سوى التمهيد لطرد فلسطينيّي الداخل الذين يتجاوز عددهم مليونين عربي إلى المنافي العربية أو إلى الغرب. كما يخشى من أن يؤدّي القمع الإسرائيلي المتواصل في الضفة إلى تهجير أكثر من 3 ملايين فلسطيني إلى الأراضي الأردنية باعتبارها الوطن الفلسطيني البديل.

لا تجري الرياح في المنطقة بما تشتهي عمّان. المخطّطات اليمينية الإسرائيلية التي تنفّذ في فلسطين تهدّد المصالح العليا للأردن وأمنه القومي. كرة النار المشتعلة في غزة ولبنان ليست بعيدة عنها.

الأردن منع تهجير غزّة

الموقف الرسمي الأردنيّ، بدعم من الموقف العربي، حال دون تهجير أهل غزّة، وكان الردّ الإسرائيلي حرب إبادة في القطاع لم يشهد القرن الحادي والعشرون مثلها. ومع توسيع نطاق الحرب إلى لبنان وسوريا ودول أخرى، ترى عمّان أنّ الخاسر الأكبر هو الدول العربية والقضية الفلسطينية.

جعل هذا السلوك الإسرائيلي علاقات عمّان وتل أبيب في “أسوأ حالاتها”، منذ توقيع اتفاقية السلام بينهما عام 1994 في وادي عربة، التي أكملت عامها الثلاثين في 26 تشرين الأول، الأمر الذي أدّى إلى استدعاء السفير الأردني غسان المجالي من إسرائيل ومنع عودة السفير الإسرائيلي روجيل بن موشيه إلى عمّان، ووقف المملكة توقيع اتفاقية الطاقة مقابل المياه مع إسرائيل، والمضيّ قدماً في مشروع “الناقل الوطني”، الذي يهدف لتحلية المياه ونقلها من العقبة إلى عمّان واعتباره “أولوية وطنية”.

لكنّ ذلك لم يشفِ غليل الشارع ومجلس النواب والأحزاب السياسية الذين طالبوا بإلغاء اتفاقية وادي عربة على اعتبار أنّها لم تجلب الأمن ولا السلام، حتى إنّ وزير الخارجية أيمن الصفدي وصفها بأنّها “ورقة يعلوها الغبار”. ويذكّر المتحمّسون لإلغائها بأنّ اتفاقية أوسلو لم تحمِ الفلسطينيين من المخطّطات الإسرائيلية، فهل تحمي وادي عربة الأردن من المشاريع الإسرائيلية الجهنّمية؟

لكنّ للسلطة في عمّان رأياً مختلفاً، إذ يعتبر عضو مجلس الأعيان جميل النمري أنّ هذه الاتفاقية تحمي الأردن من أيّ أخطار بموجب الاتفاق الدولي والاتفاقات التي يرتبط بها والتحالفات التي أبرمها مع مؤثّرين على الساحة الدولية.

الموقف الرسمي الأردنيّ، بدعم من الموقف العربي، حال دون تهجير أهل غزّة، وكان الردّ الإسرائيلي حرب إبادة في القطاع لم يشهد القرن الحادي والعشرون مثلها

هل تُلغى معاهدة السّلام؟

بحسب خبراء في القانون الدولي لا تنصّ معاهدة السلام مع إسرائيل على آليّة لإلغائها، أو الانسحاب منها، أو حتى تعليقها، لكنّ ذلك لا يمنع الحقّ السياديّ لأيّ دولة من الخروج من أيّ معاهدة. والسؤال المطروح: ما هي التبعات السياسية والاقتصادية المترتّبة على الأردن، في حال قرّر المضيّ في إلغاء المعاهدة؟ وهل البلاد مستعدّة للتعامل مع واقع جديد، وتداعيات إقليمية، ودولية أوّلها مواجهة الحليف الأميركي؟

في رأي النمري أنّ المشكلة أكبر من ذلك بكثير، إذ إنّ أيّ قرار في هذا الشأن الجوهري والاستراتيجي يتطلّب موقفاً عربياً قويّاً وجامعاً، ولا طاقة للأردن على اتّخاذه منفرداً لأنّه يتطلّب تعويضاً عن الخسائر المحتملة ودعم الأردن اقتصادياً وماليّاً. وهذا غير متوافر الآن. لا يملك الأردن منفرداً الإمكانات لقطع العلاقات مع إسرائيل. يجب أن تكون الخطوات الأردنية مرتبطة بإجراءات عربية جماعية لمواجهة إسرائيل.

تسأل أين أميركا من كلّ ذلك؟ تأتي الأجوبة لتزيد من الحيرة، ذلك أن لا موقف أميركياً واضحاً في هذا الشأن، فهي من جهة ضدّ الحرب، لكنّها لا تفعل شيئاً لوقفها. وإذا كانت للقصر علاقة مباشرة بالبيت الأبيض وفي أوساط صنع القرار والكونغرس، فإنّ هذه الأوساط تبقى أضعف أمام اللوبي الصهيوني، كما يضيف النمري.

أمّا في حال وصول ترامب إلى البيت الأبيض فإنّ التوقّعات تسير نحو الأسوأ، ذلك أنّ عودته إلى سدّة الرئاسة بالنسبة للأردن تعني عودة مشروع صفقة القرن، الذي وقف الأردن في وجهه. كما أنّ عودة ترامب ستمنح اليمين الإسرائيلي جرعة قويّة للتوسّع الجغرافي، وإضعاف الديمغرافيا الفلسطينية، فالمرشّح الجمهوري أعطى المشروع الصهيوني أكثر ممّا كان يريد ومنحه هدايا لا تقدّر بثمن، أبرزها تحقيق الحلم الإسرائيلي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.

مع توسيع نطاق الحرب إلى لبنان وسوريا ودول أخرى، ترى عمّان أنّ الخاسر الأكبر هو الدول العربية والقضية الفلسطينية

الأردن منع تهجير غزّة (العنوان مكرر)

إزاء الضغوط الخارجية تسعى عمّان إلى الموازنة عبر اللجوء إلى خيارين:

  • تكتيل الجبهة الداخلية وتعزيز تماسكها عبر رفع سقف الحرّيات وتعديل قانون الجرائم الإلكترونية، لا سيّما ما يتعلّق بتقييد الحرّيات والاعتقالات التي استهدفت الصحافيين والناشطين من منتقدي استمرار التطبيع مع إسرائيل والمتضامنين مع غزة وفلسطين ولبنان.
  • والخيار الآخر هو الانفتاح على تركيا وإيران والهند والصين وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، أقلّه لموازنة التهديدات الإسرائيلية، وتوسيع شبكة التحالفات الإقليمية والدولية للأردن، على نحو يُعزّز أمن البلاد واستقرارها.

في ما يتعلّق بالعلاقة الحرجة مع إيران، شكّلت الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية أيمن الصفدي في آب الماضي ونقله رسالة من الملك عبدالله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، نقلة نوعية على طريق نزع الألغام بين الدولتين. واستكملت هذه الاستدارة بلقاء بين الملك الأردني والرئيس الإيراني على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول الماضي، توّجت بلقاء منفرد بين الرجلين. وأعقب ذلك في منتصف تشرين الأوّل استقبال الملك لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي في عمّان. وأٌعطيت لهذه الخطوات تفسيرات عدّة متناقضة، حسمتها مصادر أردنية مطّلعة بالقول إنّ هذه اللقاءات رسالة إلى إسرائيل مفادها أنّ الأردن يملك خياراته السياسية في الدفاع عن سيادته على أرضه وسمائه، وأنّ واحداً من الخيارات هو فتح قنوات اتّصال على وسعها مع طهران وأطراف الصراع في المنطقة.

إقرأ أيضاً: الإسلاميون في البرلمان… والسلطة في القصر

رسالة الصّفدي إلى دمشق

استكمالاً لهذا المناخ طار الوزير الصفدي إلى دمشق، التي شكَّل لاجئوها وحدودها الجنوبية مع الأردن على مدى أكثر من عقد ونصف عقد مشكلة أمنيّة للجيش الأردني تخلّلتها مواجهات مسلّحة مع مهرّبي المخدّرات والسلاح. وحمل الصفدي رسالة من الملك إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لم يفصح عن مضمونها، لكن يبدو بحسب مسؤولين مطّلعين أنّها لا تنفصل عن محاولات الأردن لحماية مصالحه وأمنه في ظلّ ما تشهده المنطقة من تصعيد عسكري خطير يضع المملكة على خطوط النار.

يعيش الأردن، كما دول المنطقة، لحظات حرجة وصعبة ومعقّدة، تضعه في مواجهة سياسية مع دولة الاحتلال التي تسعى إلى رمي كلّ مخلّفات دمارها في أراضيه ودول الجوار. إنّها مواجهة لن تضع أوزارها في القريب العاجل.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…