قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع، لا تخفي عواصم في أوروبا قلقها من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يقوم ذلك القلق على شكّ في مجهول، بل ضيق من معلوم عرفه الاتحاد الأوروبي طوال ولاية ترامب الرئاسية السابقة. غير أنّ ما كان تبرّماً بين عامَي 2017 و2021 في مرحلة “عاديّة” في تاريخ العالم، بات يرقى إلى مستوى الهلع في مرحلة شديدة الخطورة تنتشر فيها الحروب والصراعات، وأهمّها في قلب أوروبا نفسها.
لن تجد زعيماً أوروبياً يجاهر علناً بهذا القلق ويبدي مقتاً من احتمال فوز المرشّح الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات اليوم. لكنّ رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، وعد بفتح زجاجة شمبانيا احتفالاً بالنصر الموعود. فالرجل لا يخفي الدعم والتأييد وربّما الولاء لترامب بما يجعله “حصان طروادة” الترامبيّ داخل “النادي الأوروبي” الكبير.
يكشف الهمس في بروكسل، حيث مقرّ الاتّحاد، أنّ ترامب حين يريد طرق أبواب أوروبا لا يتواصل مع أورسولا فاندر لاين، رئيسة المفوضية، ولا شارل ميشال، رئيس المجلس الأوروبي، ولا الرئيس الفرنسي في باريس والمستشار الألماني في برلين، بل يهاتف صديقه أوربان في بودابست.
لن تجد زعيماً أوروبياً يجاهر علناً بهذا القلق ويبدي مقتاً من احتمال فوز المرشّح الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات اليوم
المجر… دولة “عُظمى” ترامبيّاً؟
يتهكّم مسؤول فرنسي، لعب دوراً محورياً في بروكسل، في نقله ما أخبره به أوربان يوماً من أنّ أوروبا تقوم على 3 ركائز كبرى: فرنسا (الدولة النووية الوحيدة في الاتّحاد) وألمانيا (عمود اقتصاد المجموعة).. والمجر! وأن يصبح أوربان، صديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكيلاً لترامب في أوروبا، فذلك يعني أنّه سيكون لهنغاريا دور أكبر من حجمها داخل أوروبا، وربّما يقرّر مصيرها في عهد الترامبيّة المحتملة. وفيما درج أن يدور الاتحاد، فكرةً وإدارةً وقيادةً، حول المؤسّسَين الكبيريْن الأوّليْن، فرنسا وألمانيا، فإنّ “المركب” قد يميل باتّجاهات جديدة استجابة لرياح خبيثة قد تنفثها واشنطن الترامبيّة. فالبحّار المجريّ لن يكون وحده.
كما بوتين، لا يحبّ ترامب أوروبا ولا حلف شمال الأطلسي. وللصدفة، فإنّ كلّ التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا يمقتون الاتّحاد وشططه الأطلسي.
تنقّل ستيف بانون، منظّر الترامبيّة الأميركي، في السنوات الأولى لولاية ترامب بين عواصم أوروبا يشدّ من عضد الشعبويين ويوحّد صفوفهم وبقي يحاضر في الترامبيّة وعقائدها وإن ابتعد عن ترامب والبيت الأبيض. وعليه فإنّ لدونالد ترامب مريدين وأتباعاً، ليس فقط في صفوف المعارضة الشعبوية الأوروبية، بل باتوا داخل أو على اعتاب السلطة والحكومات.
كما بوتين، لا يحبّ ترامب أوروبا ولا حلف شمال الأطلسي. وللصدفة، فإنّ كلّ التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا يمقتون الاتّحاد وشططه الأطلسي
لوبان وميلوني أيضاً….
تمنّي زعيمة اليمين المتطرّف في فرنسا مارين لوبن النفس بعودة ظافرة لترامب وسط شعور بأنّها ظافرة بالإليزيه عام 2027. لكن في تشيكيا وسلوفاكيا وسلوفينيا والسويد يمين متطرّف يحكم أو يقترب من الحكم سيجد في الترامبية مناسبة للتوسّع والرواج. وفي قلب وعلى ضفاف تلك الظاهرة، تبرز في إيطاليا زعيمة اليمين المتطرّف رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني كحالة متميّزة ناجحة باتت تمثّل مرجعاً لأحزاب اليمين المتطرّف في الحكم وأصوله. ولا تخفي السيّدة الإيطالية القويّة ميولها نحو المرشّح الجمهوري وتعوّل على فوزه.
لا تملك 27 دولة عضو داخل الاتحاد الأوروبي هامش مناورة واسعاً للتصدّي للرياح الآتية من واشنطن. تمرَّد الجنرال شارل ديغول في فرنسا على واشنطن وغادر القيادة العسكرية الموحّدة لحلف شمال الأطلسي في الستّينيات. غير أنّ الظاهرة بقيت معزولة لم تجرّ أوروبا معها.
بُحَّ صوت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقناع المجموعة أن تكون موحّدة سياسياً، مستقلّة عسكرياً، لتشكّل كتلة اقتصادية وازنة ما بين الولايات المتحدة والصين من دون جدوى. كان ذلك قبل أن يغزو بوتين أوكرانيا، في شباط 2022، وتقترب جيوشه من أبواب الاتّحاد نفسه. للمفارقة أنهى الزعيم الروسي أسطورة الاستقلال الأوروبي، وربّما يهدي صديقه ترامب قارّة أكثر خضوعاً لإرادات البيت الأبيض.
تمنّي زعيمة اليمين المتطرّف في فرنسا مارين لوبن النفس بعودة ظافرة لترامب وسط شعور بأنّها ظافرة بالإليزيه عام 2027
أوروبا خائفة.. على الأمن والاستقرار
يخشى الأوروبيون من تشتّت شملهم إذا ما أطلّ ترامب من البيت الأبيض. يتوقّعون أن تهرع بعض الدول الأعضاء إلى إبرام اتفاقات ثنائية مباشرة مع واشنطن. دول أوروبا الشمالية، مثل فنلندا والسويد ودول البلطيق الثلاث، مرعوبة من البوتينية الداهمة. ينسحب الأمر على دول أوروبا الشرقية، مثل رومانيا وبولندا ومولدافيا، التي تراقب دبّابات موسكو في أوكرانيا تندفع نحو حدودها.
من بين ما يخيف أوروبا أنّها لم تعد الشريك التجاري الأوّل للولايات المتحدة، وأنّ خطط ترامب باتت علنية في فرض تعريفات جمركية على منتجات الاتّحاد. وفي بعض تعبيرات الرجل ما يكشف أنّه يتعامل مع الحليف في أوروبا كما الخصم في الصين من وجهة نظر المنفعة والمنافسة والمصالح. غير أنّ الهاجس الأوروبي الداهم والعاجل يتعلّق بأمن القارّة واستقرارها.
إقرأ أيضاً: وقف إطلاق النّار… بين الضّغط الأميركيّ وضغوط الميدان
إن حملت صناديق الاقتراع ترامب إلى الرئاسة، فسيجد بلداً متعباً من الحرب في أوكرانيا. كان الحزب الجمهوري قد أظهر تبرّماً من تكاليف حرب “بعيدة عن حدودنا”، وأظهر عناداً مضنياً في تمرير ميزانيات إدارة الديمقراطي جو بايدن في الكونغرس في هذا الصدد. يحمل ترامب أيضاً هذا النزق، ووعد ناخبيه بإنهاء هذه الحرب، حتى قبل موعد تسلّمه السلطة في 20 كانون الثاني المقبل، عبر التحدّث مع صديقيه، بوتين و(الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي.
حتى لو كان في حلّ ترامب تبسيط انتخابيّ، لكنّ تخلّي واشنطن المحتمل، في ظلّ إدارته، عن دعم أوكرانيا أو إجبارها على سلام بشروط بوتين، ينقل أوروبا إلى مظلّة تقاطع بوتينيّ ترامبيّ ترعب حتى كير ستارمر رئيس وزراء بريطانيا، تلك الدولة المتماهية تقليدياً مع الولايات المتحدة، والتي وصفها ديغول ساخطاً يوماً بأنّها “حاملة طائرات أميركية في قلب أوروبا”.
لمتابعة الكاتب على X: