المشهد لم يعُدْ جديدًا وانتهَت أَحداثه. لكنَّ صداه لم ينْتَهِ، ويجب أَلَّا ينتهي لأَنه أُمثولة وطنية. وكم بنا اليومَ حاجةٌ إِلى التمَثُّل، ونحنُ وسْطَ زمنٍ كَثُر فيه الكُفْرُ بالوطن.
المشهد البليغ: الرائد الشهيد محمد سامي فرحات، مُسَجًّى في نعشٍ يباركُهُ عَلَم لبنان، وسْط الساحة أَمام كنيسة مار مارون في رشعين-زغرتا (شمال لبنان)، حيثُ أَهلُه مستَضَافُون مُكَرَّمُون، كانوا غادَروا قسْرًا بلدتَهم دير قانون رأْس العين – قضاء صُور (جنوب لبنان)، معتزِّين بابنِهم محمد على الجبهة يقاوِم ويدافِع. لكنَّهم لم يعلَموا أَنَّ وجدانه العسكري دفَعَه ليَهرع إِلى جنوده الجرحى في ياطر بنت جبيل كي يُخْليهم من شدْق الموت، لكنَّ الموتَ خطَفَه وهو يُنْقذ رفاقَه الجنود. وها محمد اليومَ وديعةٌ مُوَقَّتة في حمى مار مارون رشعين، حتى تنجلي النار عن دير قانون رأْس العين، فيهنأَ في تراب بلدته الأُم بين أَهله وأَصدقاءِ طفولته وشبابه.
هذا هو المشهد صوتًا: شيخٌ يَقرأُ الفاتحة ويُكبِّر “الله أَكبر”، مواطنون يرسمون إِشارة الصليب، على وقْع أَجراس كنيسة مار مارون، ثُلَّةٌ من جنود لبنان يؤَدُّون تحيةَ الوداع لرفيقهم الشهيد، فيما تنهمل على النعش حبوبُ الأَرُزّ وأَزرارُ الورد من نساء رشعين.
ذاك كان المشهدُ صوتًا وخَفَتَ يومها. أَما الصدى فلم يخفُت ولن ينطفئَ لأَن فيه جوهرَ لبنانَ الصيغة، وأُعجوبيةَ النسيجٍ الوطني اللبناني، بعيدًا عن سطحيات التفكير الشوفيني أَو التفكيكي أَو الانعزالي.
جوهرُ لبنان أَلَّا نتبجَّحَ بمقولة “لبنان أَولًا” فهي ساذَجة وبديهية: كلُّ مواطنٍ طبيعيٌّ أَن يقولَ إِنَّ وطنَه أَولًا. وجوهرُ لبنان ليس التغنِّي بمقولة “لبنان وطنٌ نهائيٌّ لجميع أَبنائه”، فهي أَيضًا ساذَجة لأَنَّ من البداهة أَنَّ كلَّ وطنٍ نهائيٌّ لأَبنائه.
جوهرُ لبنان الفعلي: أَن يكون لبنانُ أَولًا وأَخيرًا وبَين بَين، وأَن يكونَ الولاءُ للبنانَ الوطن الواحد الوحيد ولا سواه، وأَن يكون الوفاء فقط لِعلَم لبنان وأَرزه الرمز، وأَن يكون الولاءُ والوفاءُ معًا لجيش لبنان وما إِلَّا لجيش لبنان: وحدَه درعُنا، جميعُنا نجتمع إِليه، نلتفُّ حوله، نحتمي به، نتفيَّأُ خُوذتَه المقدَّسة.
الرائد الشهيد محمد سامي فرحات، مُسَجًّى في نعشٍ يباركُهُ عَلَم لبنان، وسْط الساحة أَمام كنيسة مار مارون في رشعين-زغرتا
لهذه الحقيقة استُشهد الرائدُ البطل محمد سامي فرحات وهو يُنقذ رفاقَه على الجبهة، ليكون لبنانُ كُلُّه جَبهةً واحدةً تَجْبَهُ عدوًّا تنينًا هولاكيًّا نيرونيًّا يتربَّص بنا لا منذ سنوات ولا منذ عقود بل من أَول التاريخ، مُدَجَّجًا بتيولوجيا صنَّعها على قياس أُفعوانياته التوسُّعية.
سوى أَن لبنان، بتاريخه الساطع وآبائه البُناةِ المؤَسسين، أَقوى من أَن يَهوي، فأَرزه يَلوي ولا ينكسر، وصيغتُهُ فريدةٌ لا شبيه لها، ولأَجله ينهض أَبناؤُهُ المخْلصون ليَحمُوا علَمَه وأَرزته ويغمُروه بتعدُّدية دينية موحَّدة ضد عدوٍّ إِحاديّ التعصُّب والعمى.
لأَجل هذه الصيغة، استُشهد محمد فرحات فداءَ اثنين: وطنِه الوحيد وعلَمِهِ الواحد. وبهذه الصيغة تحتضنُه اليومَ رشعين وديعةً موَقَّتَةً في حماها (شمال لبنان) مترقِّبةً وضعَ جارتها البعيدةِ دير قانون رأْس العين (جنوب لبنان)، ليكونَ لبنانُ كلُّه رشعين وكلُّه دير قانون رأْس العين، فيتَّحدَ كلُّ قريبٍ بكلِّ بعيدٍ في لبنانٍ واحد موحَّد، يحميه جيشُه الأَوحد، وتُباركُهُ أَرزتُه، خضراءَ خالدةً كالمستقبل، في قلْب علمِه الأَقدس الخالد.
*هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية.
*نقلاً عن موقع “أسواق العرب”