لا شيء يشي بأنّ حروب المنطقة آيلة إلى مآلات قريبة. تبدّدت في الساعات الأخيرة أعراض لإنهاء الحرب في لبنان، وتبدّد قبلها ما قيل عن مفاوضات لصفقة “صغيرة” تحرّك جديداً في حرب غزّة. وفيما لا صوت يعلو فوق صوت النيران الإسرائيلية في المنطقة، فإنّ المواكبة والرعاية الغربيّتين لتلك الحروب لا تستبقان نهاياتها الحتمية بتصوّر يُعدّ لـ”اليوم التالي” للحرب، في غزّة وفلسطين، وفي جنوب نهر الليطاني في لبنان، وأيضاً في شماله. غير أنّ هذا “اليوم” يظهر في تحرّكات السعودية، بهدوء ممنهج، ومثابرة دؤوبة، لإنهاء أزمات المنطقة من العنوان الأوّل لتلك الأزمات.
تنتقل الرياض من مشروعها للسلام الذي ظهر عام 2002 وبات مبادرة عربية في قمّة بيروت من العام نفسه، إلى قيادة “تحالف عالميّ لتنفيذ حلّ الدولتين”. وفي المعنى أنّ الحلّ ليس خياراً قابلاً للنقاش وعرضة لمزاج حكومات إسرائيل والبيئة الدولية الحاضنة، بل هو الحلّ النهائي الذي شرّعته قرارات أممية، منذ “التقسيم”، مروراً بقرارات صادرة عن كبرى التجمّعات الدولية، العربية والإسلامية والأوروبية وغيرها. وحتى الولايات المتحدة التي تتبنّى ببلادة الرواية الإسرائيلية وتعمل وفقها، راحت، منذ ما بعد “طوفان الأقصى”، على لسان كلّ منابرها الرسمية وعلى رأسها البيت الأبيض، تبشّر بحلّ الدولتين وكأنّه اختراعها الحديث.
تنتقل الرياض من مشروعها للسلام الذي ظهر عام 2002 وبات مبادرة عربية في قمّة بيروت من العام نفسه، إلى قيادة “تحالف عالميّ لتنفيذ حلّ الدولتين”
لا أوهام بشأن جدّية الولايات المتحدة لإقامة دولة فلسطينية. لا شيء يشي، في ما عرفناه في ولايته السابقة، بأنّ فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية سيحمل أيّ أمل لتغيير في موقف صاحب “صفقة القرن”. ولا شيء يؤكّد أنّ ما يصدر عن منافسته، كامالا هاريس، من “تفهّم” لمعاناة الفلسطينيين، يَعِدُ بتحوّلات باتجاه دولة للفلسطينيين في حال فوزها بالرئاسة. فإسرائيل ترفض إقامة تلك الدولة، وسنّت تشريعاً لذلك. وأوقفت التعامل مع وكالة الأونروا كتعبير عن عدم اعترافها بكارثة تستدعي إقامة تلك الدولة.
تعتبر السعودية أن لا حلّ لأنواء المنطقة وحروبها إلّا بإقامة دولة فلسطينية. وحين راج الحديث عن اتفاق استراتيجيّ تاريخي بين الرياض وواشنطن، يشمل الأمن والدفاع والتعاون النووي وملفّات أساسية أخرى، وضعت السعودية إقامة دولة فلسطينية شرطاً بنيويّاً من بنود هذا الاتفاق. وحين تدافع موفدو واشنطن إلى الرياض، من الرئيس جو بايدن إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، مروراً بمستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وغيرهم، حاملين ملفّ التطبيع مع إسرائيل، ردّت الرياض كما تردّ دائماً منذ مبادرتها للسلام قبل 22 عاماً: “لا تطبيع قبل إقامة دولة فلسطينية”.
تعتبر السعودية أن لا حلّ لأنواء المنطقة وحروبها إلّا بإقامة دولة فلسطينية
الاجتماع الأوّل لتحالف “الدّولتين”
نحو 90 دولة ومنظّمة دولية شاركت، الأربعاء، في الرياض في الاجتماع الأوّل لـ”التحالف العالمي لتنفيذ حلّ الدولتين”. بدا أنّ الآليّة تشبه مؤتمراً دولياً لطالما كرهت إسرائيل انعقاده لحلّ النزاع. وبدا أنّ أمر تنفيذ ذلك الحلّ يحتاج إلى جهد “عالمي” يفرض مزاجاً جديداً أفرزته كارثة “الطوفان” وما بعده. وبدا أنّ السعودية، التي تقود وتحتضن هذا التحالف، تستقوي به وتدعّم موقفها وترصّ صفوف العالم حولها للشروع بورشة لإقامة دولة فلسطينية، ليس فقط كشرط لاتفاق استراتيجي مع الولايات المتحدة وتطبيع محتمل مع إسرائيل، بل أيضاً كبوّابة وحيدة لاستقرار كلّ الشرق الأوسط.
جهوزيّة التعامل مع الرياح المتغيّرة..
يذهب وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أبعد من ذلك. قطار “التحالف” بوجهه العالمي يستتبع مفردات أخرى. يقول إنّ “إقامة دولة فلسطينية ليست مرتبطة بما إذا كان الإسرائيليون يقبلون بذلك أم لا، لكنّه مرتبط بقواعد ومبادئ القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة”. فإذا ما كان الكنيست يشرّع ومنابر الحكومة والساسة يرفضون الخيار، فإنّ على العالم أن يقرّر، كما قرّر يوماً ما قيام دولة إسرائيل، قيام دولة الفلسطينيين. ولكي تتّضح نقاط الرياض على الحروف، فإنّ الوزير السعودي يُطلق كلمات حاسمة حازمة: “التطبيع مع إسرائيل ليس مطروحاً على طاولة التفاوض حتى نرى حلّ الدولة وإقامة الدولة الفلسطينية”.
إقرأ أيضاً: وقف حرب لبنان: ركيزة الحاضنة العربيّة؟
تدرك بلدان المنطقة أنّ شيئاً ما يُدبّر لكلّ المنطقة. يتوعّد رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتغيير الشرق الأوسط. وقد توحي ورشته العسكرية المتعدّدة الجبهات بسعيه في هذا الاتجاه. والمطلوب، وفق ما يرى أحد المسؤولين السعوديين، أن تكون دول المنطقة جاهزة للتعامل مع أيّ رياح.
كان وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد زار على نحو مفاجئ القاهرة منتصف تشرين الأول الماضي قبل أن يتوجّه لحضور القمّة الأوروبية في بروكسل، بما يوحي بضرورات التشاور والوصل الإقليمي والدولي. وفيما تغادر وفود “التحالف العالمي” الرياض، كانت العاصمة السعودية تستعدّ لاستقبال وفود القمّة العربية الإسلامية التي ستُعقد في 11 تشرين الثاني الجاري. العالم يتغيّر بسرعة وعلى عواصم العرب والمسلمين أن يكونوا يقظين متنبّهين جاهزين للتموضع الحذق داخل مشهد دوليّ شديد التحوّل. هذه فلسفة الرياض استعداداً لـ”اليوم التالي”.
لمتابعة الكاتب على X: