تتزايد ضغوط الولايات المتحدة الأميركية بقوّة لإيجاد تنميط مختلف للقرارات الدولية، خاصة حول دور قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب اللبناني التي تميل واشنطن إلى توسيع صلاحياتها، بل إلى وضع مهمّتها تحت الفصل السابع.
تتنافس الإدارة الأميركية مع “فيتو الإليزيه” المعارض لحلّ توليفات هذه القوّات الأمنيّة. تصطدم أيضاً مع الدول الخصم في مجلس الأمن، والفيتوات الأصعب (روسيا والصين). لا تبتغي واشنطن المواجهة في فرض إجراءات مستحيلة. تعلم مسبقاً صفريّة تحقّقها. ترغب في بلوغ التسوية، وإنهاء الحرب ضمن استاتيكو النفوذ الواقعي. فهل تبقى قوات الطوارئ تحت الفصل السادس؟ هل يتغيّر إطارها ودورها؟ هل تتحوّل إلى قوّات متعدّدة الجنسيّات تعمل تحت الفصل السابع؟
الأولويّة الفرنسيّة: دعم الجيش اللّبنانيّ
يصرّح مصدر وزاري في الإليزيه، رفض الكشف عن اسمه: “إنّ الأولوية هي في دعم الجيش اللبناني، وفي رعاية وتقوية اليونيفيل كما هي”. يُعتبر الجيش الركن الشرعي والوطني في المرحلة المقبلة. ويُنظر إلى اليونيفيل على أنّها شريك الدولة اللبنانية الأممي. “ليست الأولوية في تغيير مفهوم القوات الدولية، لكنّ هنالك شرطاً ضرورياً يتمثّل في إلزامية تحصينها وحمايتها لتحقّق فاعليتها، على أن تصبح مساعدة في تطبيق القرارات الدولية، بشكل ناجز، بحيث تشكّل العامل المساعد الأساسي للجيش اللبناني في المرحلة التالية الانتقالية، انطلاقاً من مرحلة وقف العمليات العدائية وصولاً إلى عتبة التسوية النهائية مع تطبيق القرارات الدولية”.
لا مناصّ من بقاء الإطار القانوني الذي يكفل عمل اليونيفيل في لبنان تحت الفصل السادس، ضمن خانة “حفظ السلام” وليس “فرض السلام”
تشدّد الإدارة الفرنسية على أنّ الحاجة ليست إلى التعديل، بل تطبيق كلّ القرارات الدولية، وفي مقدَّمها الـ1701. تصرّ الإدارة الفرنسية على أنّ الهدف الجوهري هو تحويل التشريع الدولي إلى حقيقة فعّالة على الأرض. تسعى إلى ضخّ الحيوية في التسوية عبر نقل القرارات الأممية من الإطار النظري الجامد إلى هيكل مؤسّس يساعد الشرعية الأممية في بناء المرحلة النهائية من التسوية. يأتي تعزيزه عبر إضافات عملية تحوّل الواقع النظري والعملي المعيب إلى حقيقة ملموسة تستوجب ضرورة صقلها عبر آليّات عمل إجرائية تكون أكثر واقعية، تشبه المراسيم الاشتراعية للحكومات وتعمل على ضمان خطّة السير التنفيذية للقرارات الدولية.
وجهة النّظر الصّهيو– أميركيّة
فشل القرار 1701 من وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية في توفير الأمن. لم يمنع نشاط “الحزب” العسكري. يعتبرونه وثيقة قانونية ميتة. ولذا تميل واشنطن إلى دور جديد للقوات الدولية. وتسعى إسرائيل إلى استهدافها ومضايقتها. تريد حرمانها من أيّ شرعية في الصلاحيّات ومن العمل في الجنوب اللبناني.
تتفاوض الإدارة الفرنسية مع الولايات المتحدة، وتعارض بشدّة المخطّطات الإسرائيلية، التي تعتبرها خطيئة قانونية. تشدّد على صلاحية القرار 1701. تدعم قوات اليونيفيل في تشكيلها المظلّة لأيّ تسوية مرتقبة، لا سيما أنّه لا يوجد أيّ نشاط أو حتى قرار يعتبر ميتاً إذا لم تنتهِ ظروفه أوّلاً، أو لم يتمّ إلغاؤه بقرار موازٍ له في الهرمية، انطلاقاً من مبدأ توازي الأشكال في القانون، وحتى لو لم يتمّ تطبيقه كلّياً. إذ تبقى قرارات الأمم المتحدة ملزمة، وتستمرّ قوات اليونيفيل في مهامّها، وتستمدّ صلاحيّاتها الفاصلة في القانون منها. لا يمكن سحبها إلا عبر إصدار قرار أمميّ جديد أو قرار من قبل حكومات الدول المشاركة.
يريد الكيان الإسرائيلي منع احتمالية إعادة ترميم قدرات “الحزب” العسكرية. تدعمه في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا وكلّ المجتمع الدولي
أهمّيّة اليونيفيل لفرنسا
تعتبر الإدارة الفرنسية أنّ وجود اليونيفيل مهمّ جداً في إعاقة نوايا القوات الإسرائيلية. لا تريد أن يحقّق الإسرائيلي هدفه بإلزامها بالانسحاب. إذ لا يرغب الكيان الإسرائيلي في وجود أيّ قوّة عسكرية تراقبه، خاصة مع صلاحية إعداد تقارير، حتى لو كانت أممية وغير محاربة. تؤسّس للمرحلة المستقبلية لتطبيق القرارات الدولية، عبر ديناميّتين أساسيّتين:
1- دعم الشرعية الوطنية الرسمية المتمثّلة بمؤسّسة الجيش اللبناني، وبقيّة المؤسّسات الأمنيّة.
2- تحصين اليونيفيل وحماية دورها وتأمين نطاقها في تثبيتها كقوات حفظ سلام.
لا مناصّ من بقاء الإطار القانوني الذي يكفل عمل اليونيفيل في لبنان تحت الفصل السادس، ضمن خانة “حفظ السلام” وليس “فرض السلام”. وثمّة فرق كبير بينهما، خصوصاً على صعيد القدرة على استخدام القوّة . إذ تحتاج قوّة حفظ السلام إلى تفويض أممي من مجلس الأمن وموافقة الدولة المضيفة أو أطراف النزاع الرئيسيّين لاستخدام القوة، فيما لها كلّ الصلاحيّة بحكم قوّة القرار القانونية لحفظ السلام.
لذا يجري العمل على تكريس خطوات عمل وآليّات تَحقُّق أكثر واقعية في أداء اليونيفيل من الناحيتين الإدارية واللوجسيتة مع أن تبقى “قوات حفظ سلام” تقليدية تؤازر الجيش اللبناني، ومع إطلاق العنان لهذا الأخير لكي يكون الآمر الناهي في منطقة جنوب الليطاني. فلا إمكانية لها حتى الآن لأن تتحوّل بحكم التوازنات الأممية إلى قوات متعدّدة الجنسيات وفرض سلام.
خطورة الفكر الإسرائيليّ
تتمثّل خطورة ما يسعى إليه الكيان الإسرائيلي في ضغطه على قوات اليونيفيل لدفعها للانسحاب من منطقة جنوب الليطاني. وسيعبّد ذلك مسلكه نحو إمكانية إعادة التوغّل في الجنوب لمرّة جديدة، من دون وجود طرف ثالث، أي بغياب ركن وسيط يفصل بين الفريقين، مع انسحاب أصحاب القبّعات الزرق.
تستمرّ قوات اليونيفيل في مهامّها، وتستمدّ صلاحيّاتها الفاصلة في القانون منها. لا يمكن سحبها إلا عبر إصدار قرار أمميّ جديد أو قرار من قبل حكومات الدول المشاركة
يريد إفشال مهمّتها، وهو ما يعدّ إخفاقاً كبيراً في منظمة الأمم المتحدة. تنظر الإدارة الفرنسية، ومعها الاتحاد الأوروبي، إلى الأمر بقلق كبير، لا سيما أنّها المساهِمة الكبيرة فيها، وهي التي تعاني من صراع على حدودها. وقد تكون بحاجة إلى قوات دولية مشابهة في المرحلة المقبلة للفصل ولإدارة “اليوم التالي” بين روسيا وأوكرانيا.
لذلك لن يتمّ تغيير “عقيدة” اليونيفيل حالياً. ولم يحصل أيّ تبدّل ظرفي في “مذهبية أطرها الحيثية”. ولا يوجد احتمال في أن تصبح قوات متعدّدة الجنسيات، وانتقالها إلى الفصل السابع، مع احتمال حصول تلوين في شكلها. فلن يتوافر الإجماع، إذ تتّجه الأولوية إلى الحزم في تطبيق القرارات الدولية، خاصة أنّ أيّ قرار جديد يحتاج إلى اجتياز فخاخ الفيتوات في مجلس الأمن.
لذا تبتغي الإدارة الفرنسية الحلّ الناجز والمتاح. تسعى إلى تطبيق القرارات الدولية بشكل صحيح وحقيقي، شرط أن لا تقع في مرحلة منقوصة من “وقف العمليات العدائية”، وأن لا تشوب آليّات تنفيذها الانتقائية المؤذية.
بسط سيادة الدّولة
يريد الكيان الإسرائيلي منع احتمالية إعادة ترميم قدرات “الحزب” العسكرية. تدعمه في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا وكلّ المجتمع الدولي. لكنّ باريس وفي تمايز عن واشنطن لا ترغب أن يعود لبنان بعد هذه الحرب دولة مجزّأة ومهشّمة وفاشلة. لا تروم أن تُشكّل حكومات لا تسيطر سيطرة كاملة على أراضيها. لا تقبل أن يعود لبنان من جديد دولة المساحة المستباحة أمام عمليات عشوائية تنفّذها قوى من خارج الشرعية، وتصادر سلطة الدولة.
لا تريد تكرار فترة الاستقرار الخبيثة من جديد. تتفاهم لتشكيل بيئة حاضنة مستقرّة منطقة جنوب الليطاني، مع انتشار ودعم الجيش اللبناني لكي يكون مجهّزاً و”ذا أسنان” للدفاع عن لبنان.
يصرّح مصدر وزاري في الإليزيه، رفض الكشف عن اسمه: إنّ الأولوية هي في دعم الجيش اللبناني، وفي رعاية وتقوية اليونيفيل
ترفض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أيّ شكل جديد للشرعية الأممية في الجنوب اللبناني. تناصرهم في ذلك عدّة دول مهمّة مثل إيطاليا واسبانيا وبلجيكا. ينطلقون من خلفيّة استيعابهم لمفهومية البيئة اللبنانية ودقّة توازناتها. يحاولون تجنيب لبنان والوجود الأممي صدامات محتملة. يضاف إليها الخوف من عودة نزاعات وتفجيرات فترة الثمانينيات، التي واجهت القوات الدولية المتعدّدة الجنسيات في بيروت.
لذا يُعدّ شرط التعاون أمراً ضرورياً مع اليونيفيل، لا سيما في الإبقاء عليها ضمن تنظيمها الحالي وتحت الفصل السادس. إنّه المعبر الوحيد لنجاح وتحقيق المرتجى من القرارات. لكن يبقى السؤال المشروع: هل تتحوّل اليونيفيل إلى قوات متعدّدة الجنسيات؟ أو تبقى كما هي لكن بصلاحيات أوسع؟!
لمتابعة الكاتب على X: