تندرج جولة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في المنطقة داخل سياق الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. الرجل جزء من الإدارة الديمقراطية، وتحرّكه يصبّ حتماً لمصلحة حملة مرشّحة حزبه، كامالا هاريس. لا تريد الإدارة “حادثاً” كبيراً في الشرق الأوسط يُربك واشنطن وحظوظ هاريس. وتأمل الإدارة تسجيل “إنجاز” كبير يصبّ في خدمة الحملة الانتخابية لنائبة الرئيس. في ملفّات بلينكن صفقة في غزّة، وإغراءات لتوسيع الاتّفاقات الإبراهيمية، وهي أنجزت ضبط الردّ الإسرائيلي الموعود ضدّ إيران. لكنّ الغريب أنّ الحرب في لبنان بدت هامشاً لا أصلاً في همّة الوزير الأميركي.
لم يحضر بلينكن المؤتمر الذي دعت إليه فرنسا، الخميس، لمساعدة لبنان. أرسل مساعداً له لرفع العتب وخفض الحماسة الأميركية لهمم باريس ومبادراتها. ما زالت واشنطن تواكب الحرب الإسرائيلية ضدّ لبنان، وربّما ترعاها، وتتفهّم تماماً سردية إسرائيل في الذهاب بها بعيداً حتى تحقيق أهدافها. وفي تهميش بلينكن لملفّ لبنان، أو جعله عرضياً بارتجال لقاء مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في لندن، ما يرضي إسرائيل ويعينه على تسويق مسعاه لتمرير أعراض خطّة لليوم التالي في القطاع.
في صحف إسرائيل يمكن التعرّف على الإرهاصات الأولى للخطّة:
– استعادة كلّ الأسرى الإسرائيليين.
– انسحاب القوات الإسرائيلية التامّ أو النسبي بشكل من الأشكال من القطاع.
– تسليم الأمن لقوات تابعة للسلطة الفلسطينية.
– وجود قوات أجنبية، على شكل مراقبين أو أمميّين أو حتى متعدّدة الجنسيات.
– تواصل بين رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لأخذ مواعيد للتفاوض.
– الشروع بتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية نحو دول أخرى.
ما زالت واشنطن تواكب الحرب الإسرائيلية ضدّ لبنان، وربّما ترعاها، وتتفهّم تماماً سردية إسرائيل في الذهاب بها بعيداً حتى تحقيق أهدافها
ضربة تحت سقف منضبط
كان بلينكن يفضّل تأجيل الضربات التي ستوجّهها إسرائيل إلى إيران. يروّج في صحافة الولايات المتحدة أنّ واشنطن قدّمت منظومة “ثاد” الصاروخية رشوة لإسرائيل ونتنياهو لكي يبقى الردّ الإسرائيلي منضبطاً تحت سقف لا يستدرج الولايات المتحدة إلى حروب الشرق الأوسط، وداخل إطار ما تتطلّبه ظروف واشنطن وحاجات الانتخابات الرئاسية وهذا ما حصل. لكن في تسريبات “الرشوة” ضعف بنيوي، ذلك أنّ من يريد ضبط نتنياهو والسيطرة على طموحاته، عليه وقف تسليح إسرائيل، أو على الأقلّ التلويح بذلك، وليس إغراقها بمنظومة دفاع متقدّمة تقيها شرور الردّ على الردّ.
حملت المسيّرة التي استهدفت منزل نتنياهو في قيسارية شمال تل أبيب مياهاً كثيرة إلى طاحونته. قدّم نفسه ضحيّة محاولة اغتيال قامت بها “أذرع إيران”. كتبت سارة زوجته في تدوينة: “محاولة قتل رئيس حكومة إسرائيل وأنا ليست محاولة شخصية، بل هي استهداف لنا جميعاً، لشعب إسرائيل، لقيم وطريق شعبنا”.
أقسمت طهران بعد ساعات على العملية، من خلال ممثّليّتها في الأمم المتحدة في نيويورك، إنّها لم تفعل، وألصقت التهمة بالحزب. ثمّ أوعزت إلى مسؤول الإعلام في الحزب، محمد عفيف، بعد 3 أيام من الحدث، أن يقسم من جهته على نحو مفتعل مفرط في التأكيد إنّ الحزب يتحمّل المسؤولية “الكاملة والتامّة والحصرية” عن العملية. بعدها أفرجت إسرائيل عن صور تكشف أنّ المسيّرة انفجرت عند نافذة غرفة نوم بنيامين وسارة.
لبنان يدفع ثمن “المواعيد”؟
اعتراف الحزب، تلبية لتعليمات طهران، بأنّه مسؤول بشكل “حصريّ” عن عملية قيسارية لتبرئة إيران، يعطي المبرّر والدليل لمواصلة إسرائيل حربها المدمّرة ضدّ الحزب في لبنان “على الهواء مباشرة”، ومنح نتنياهو رخصة داخلية ودولية لمباشرة ردّ ضدّ إيران على الأرجح أنّه شمل تحديثاً للأهداف فرضته عملية قيسارية.
يدفع لبنان في هذا الظرف ثمن تقاطع مواعيد:
– موعد الانتخابات في الولايات المتحدة.
– الردّ الإسرائيلي ضدّ إيران.
لم يحضر بلينكن المؤتمر الذي دعت إليه فرنسا، الخميس، لمساعدة لبنان. أرسل مساعداً له لرفع العتب وخفض الحماسة الأميركية لهمم باريس ومبادراتها
– موعد صفقة يتمّ تدبيرها في غزّة.
– وموعد جلاء مشهد الشرق الأوسط برمّته الخارج من تلك المواعيد.
– والأرجح أيضاً أنّ العواصم الغربية، وفي مقدَّمها طبعاً واشنطن، تواكب النيران الإسرائيلية بهجمة دبلوماسية تهدف بدورها إلى الإعداد لليوم التالي للحرب في لبنان.
بدا من زيارة المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين لبيروت أنّ واشنطن تغرّد خارج العزف الفرنسي. لم يأتِ الرجل على ذكر مبادرة الرئيسين جو بايدن وإيمانويل ماكرون في نيويورك لوقف إطلاق النار في لبنان. ولم يأتِ على ذكر فرنسا أصلاً على الرغم من أنّه زار باريس واجتمع بمستشار للرئيس الفرنسي هناك قبل مجيئه إلى بيروت. وحين وعد باستشارة إسرائيل التي يصل إليها اليوم. أتى الردّ خبيثاً ناريّاً مدمّراً على مناطق بعينها في رسالة فهم رئيس مجلس النواب نبيه بري شخصياً مضامينها.
جنبلاط يهاجم ألمانيا
بدا أنّ قرار الأمم المتحدة رقم 1701 الذي يُقسم الرئيس ميقاتي على تنفيذه والالتزام به صار متقادماً. لا ثقة دولية بإمكان بيروت أن تنفّذه. لم يقترف هوكستين “إثم” المطالبة بتعديل القرار “المقدّس”. لكنّه اعتبره “غير كافٍ” ويحتاج إلى إجراءات إضافية لضمان تنفيذه. والأرجح أنّ التدابير ستكون مستوحاة من مطالب إسرائيلية كشفتها رسالة مسرّبة قيل إنّ إسرائيل وجّهتها إلى واشنطن تعرض فيها شروطها لوقف الحرب.
إقرأ أيضاً: لبنان وغزّة والنّظام: كيف ستقبض إيران ثمن الضّربة؟
لم تكن مضامين زيارة رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني لبيروت بعيدة عن أجواء البحث عن تنفيذ فعّال للقرار. فيما حملت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك رسائل (إسرائيلية) في هذا الاتّجاه على نحوٍ استفزّ رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي السّابق وليد جنبلاط، فأطلق في تدوينة، حذفها لاحقاً، تبرّماً من “بعض التصريحات أو التحليلات من قبل بعض المعلّقين أو الزوّار الرفيعي المستوى، مثل وزيرة الخارجية الألمانيّة”. ناصحاً بالتركيز “على الجهد الفرنسيّ لمساعدة لبنان”. وهنا بيت القصيد: بدا فجأة أنّ عُدّة شغل باريس تتلاشى في لبنان، وأنّ ورشة دولية أخرى تعِد لبنان بمواعيد أخرى تنتظر مواعيد الآخرين.
لمتابعة الكاتب على X: