بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً ولا هو دخل واستقرّ في موطن الإقامة… حتى اخترقت صواريخ العدوّ الإسرائيلي ومسيّراته صدر البيت ومتفرّعاته، للمرّة الأولى، منذ بداية الصراع اللبناني والإسرائيلي في 1978.
فهل يتحوّل الحيّ ذو الملك بالشيوع، الذي توسّع عقاريّاً لتبلغ مساحته أكثر من 2.7 كلم مربّع، من حزام بؤس شيعي كان ذات يوم موطئ لحركة المحرومين وخزّان المقاومة، وحكمه الحزب حتى ما قبل أيلول 2024، إلى منطقة منكوبة؟ وهل يكون الشاهد على سقوط هيبة السلطة الإيرانية في لبنان؟ هل يعود النازحون من نزوحهم المستجدّ؟ أم تُعاد الأرض إلى السكّان الأصليين ليُعيدوا بساتين الزيتون؟ أم يثور “المحرومون” و”المستضعفون” على حزام البؤس ويتحرّرون من استغلال السلطات الدينية ومجتمع الأهل ليبنوا موطن الإقامة المدني من جديد؟ أسئلة كثيرة تُطرح اليوم في حيّ بقي قيد التكوين الدائم. فهل حان الوقت ليدخل حيّ السلّم، عهد القانون والشرعية وتعود إليه الدولة بعدما نسيته لعقود؟ وهل يتحقّق مطلب أهاليه أن تكون له بلديّة مستقلّة وناخبون ونوّاب؟
تبقى كلّ هذه الأسئلة رهن الوقت والعهد الجديد الآتي على لبنان وإعادة الإعمار بعد وقف إطلاق النار. لكن كيف نشأ هذا الحيّ الذي يعيش فيه أكثر من 200 ألف نسمة يفتقرون إلى الخدمات الدنيا في أراض غير مفرزة وبيوت مخالفة لقانون البناء؟ وكيف تطوّر من أراضٍ زراعية تعود بغالبيّتها لوقف الروم الأرثوذكس إلى أكثر منطقة مكتظّة بالسكّان والأفقر في لبنان؟ وما هي مراحل تحوّلاته الاجتماعية والسياسية والأنثروبولوجية؟
أكبر حقول الزّيتون… مساكن شعبيّة
كان حيّ السّلّم سابقاً جزءاً من صحراء الشويفات ويعرف بـ”العمروسية”، بحسب دراسة لمجلس الإنماء والإعمار بعنوان “بيروت وضواحيها”. وقد أطلق عليه أوّل الوافدين إلى المنطقة تسمية حيّ السلّم، لسببين:
– أوّلهما حاجة السكان إلى سلّمٍ لعبور النهر من ضفّة إلى أخرى بسبب المياه التي كانت تفيض، فوق عبّارة كانت توجد قديماً على مشارف الحيّ يستعملها القادمون للوصول إلى الحيّ.
– وثانيهما كثرة “الجلول” الزراعية المتدرّجة على شكل سلّم. فقد كان حيّ السلّم قديماً منطقة زراعية. وكان النشاط الزراعي سائداً في هذه المنطقة وإنتاجه يغذّي الساحل اللبناني بالخضار وبعض المنتجات الزراعية الأخرى كالزيتون واللوز والخرّوب والعنّاب والليمون ثمّ البقول والفريز بعدما سكنه النازحون.
كتب المؤرّخ اللبناني فيليب حتّي في أحد كتبه أنّ “المنطقة وجوارها كانت حتى الثلث الثاني من القرن العشرين تحتضن أحد أكبر حقول الزيتون في العالم بعد غابات إسبانيا وكاليفورنيا الجنوبية”.
وقف الرّوم… قبل الشّيعة
بدأ تطوّر حيّ السلّم في أربعينيات القرن العشرين “مع موجات نزوح أهل القرى البقاعية نحو بيروت التي تشهد نموّاً حديثاً في قطاع الخدمات التجارية والصناعية في حين يشهد الريف تدهوراً في ظروف الزراعة”، بحسب تحقيق لفيصل جلّول في جريدة “السفير”.
كانت غالبية الأراضي تعود إلى وقف طائفة الروم الأرثوذكس، وبعضها الآخر كان أملاكاً خاصّة. كان الحيّ حينها عبارة عن منازل صغيرة، بيوت، استخدمها قاطنو المنطقة الذين قدموا للعمل في الزراعة، وذلك عبر استئجارها أو “ضمانها” من أصحابها المسيحيين. لم تكن في المنطقة بيوت سكن إلا على مشارف حيّ السّلّم المتاخمة لمنطقة المريجة. “استطاع آل حيدر وشحادة والمقداد والوافدون الجدد حينها من منطقة البقاع، أن يتعاونوا مع أحد أكبر سماسرة الأراضي في المنطقة آنذاك (أبي ريمون)، فتمّ شراء الأراضي أو الحصول على أسهم عقارية، وبدأت الحركة العمرانية تشهد وتيرة تصاعدية في الحيّ، وأدّى هذا الأمر إلى تعزيز مكانتهم في المنطقة”، كما يشير الدكتور في العلوم الاجتماعية أحمد الديراني في بحث معمّق قام به حول “مجتمعات الضاحية الجنوبية بين المدينية والريفية”.
تقدّر مساحة حيّ السّلّم بـ 2.7 كلم مربّع، بحسب مسح لمجلس الإنماء في 2005
بناء غير شرعيّ بغطاء كميل شمعون
في الخمسينات والستّينات من القرن العشرين، بدأ حيّ السلّم يشهد زيادة في أعداد الوافدين من قرى وبلدات بعلبك، ومنها بريتال وإيعات ويونين وشعت والنبي عثمان وشمسطار واللبوة والهرمل ومجموعات كبيرة من قرى النبي شيت، وذلك حتى ثورة 1958، بحسب مجلس الإنماء والإعمار. ولفتت الدراسة إلى أنّ الرئيس كميل شمعون غضّ حينها النظر عن البناء غير الشرعي في المنطقة لاسترضاء الطبقات الفقيرة من العائلات البقاعية التي كانت مؤيّدة له.
شهدت المنطقة حينها صياغة جديدة، فتركّبت الأحياء والتجمّعات من أبناء العائلات الوافدة إلى الحيّ، وبدأت تسميات جديدة تُطلق على أحياء هذه المنطقة، مث: حيّ بيت عبد الساتر، وحيّ بيت كنعان، وحيّ بيت العرب.
عملت حينها عائلات حيدر وكريدية وكنعان على نقل نفوسها إلى بلدة الشويفات. وتقدّر أعداد هؤلاء اليوم بحوالي ألف شخص.
شكّلت تلك المرحلة تحوّلاً أساسيّاً في النموّ السكّاني للحيّ مع بداية وفود عائلات جنوبية إثر الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان. “مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) أخذت المنطقة تشهد استقطاباً ملحوظاً للعديد من أبناء الجنوب، إضافةً إلى المواطنين الشيعة من سكّان منطقتي النبعة وبرج حمود”. جرى حينها التحوّل الكبير في النظام العمراني في المنطقة ككلّ، فازداد العمران العشوائي المتلاصق وبدأت التعدّيات، خاصّة في منطقة نهر الغدير.
ساعد على ذلك جوّ الفوضى العامّ وعدم تصنيف حيّ السّلّم على الصعيد القانوني والبلدي، إذ إنّ جميع أراضي هذه المنطقة غير مفرزة كأسهم بل كعقارات حتى الآن”، دائماً بحسب دراسة المجلس. وهي “أملاك بالشيوع أو ما يُسمّى شراكة في الملك”، بحسب الدوائر العقارية.
كان حيّ السّلّم سابقاً جزءاً من صحراء الشويفات ويعرف بـ”العمروسية”، بحسب دراسة لمجلس الإنماء والإعمار بعنوان “بيروت وضواحيها”
يقول أحد السكّان، جمال شحادة: “90 في المئة من البيوت والمباني في حيّ السلّم مخالفة لقانون البناء، إذ اشترى القاطنون الأراضي المصنّفة زراعية ثمّ عمّروا عليها بيوتهم من طابق إلى 5 طوابق من دون رخص عمار”. ويضيف: “أنا وأهلي نملك أوراقاً ثبوتية لأرضنا مكتوباً عليها أرض زراعية”. يتابع كلامه: “القانون يسمح لنا بالبناء في حال كان لدينا 2,400 سهم، لكنّ عائلة واحدة كانت تتقاسم قطعة أرض واحدة ويأخذ كلّ فرد منها بين 200 و500 سهم، ويعمّر بيته ثمّ بعد سنوات يعمّر فوق البيت لأبنائه”. ويردف شحادة: “هي أراضٍ خليط شريك غير مفرزة، وهذه مشكلتنا الأساسية التي تحرمنا من خدمات البنى التحتية وتمنعنا من بيع البيوت، حتى الطرقات هي ملك الناس وكانت سابقاً جزءاً من الأراضي الزراعية”.
التّوسّع في كلّ اتّجاه
توسّع حيّ السلّم من جميع الاتّجاهات، ليصبح عقاريّاً في قسم كبير منه تابعاً لبلديّة الشويفات، وجزء لبلديّة المريجة، وجزء ثالث لبلديّة الحدث، وهو الأصغر.
خلال تسعينيات القرن الماضي، شهد حيّ السّلّم تحوّلاً جديداً، إذ وفد إليه العديد من العائلات التي كانت تسكن وسط بيروت، وتحديداً سكّان منطقة وادي أبو جميل الذين شملتهم قرارات الإخلاءات والتعويضات التي انتهجتها الحكومة اللبنانية ضمن سياسة عودة المهجّرين، وهو ما أدّى إلى زيادة عدد القاطنين في أحزمة البؤس حول العاصمة. و”هنا بدأ المقاولون ببناء التجمّعات السكنية لاستيعاب الوافدين، وتزايدت وتيرة البناء بشكل كبير جداً في أطراف حيّ السلّم والفراغات داخله”، كما يشرح الديراني. لذلك يقول فيصل جلّول: “لا توجد حدود ثابتة لحيّ السلّم، فهو يتوسّع دائماً في أكثر من اتّجاه”.
2.7 كلم مربّع… وأكثر؟
تقدّر مساحة حيّ السّلّم بـ 2.7 كلم مربّع، بحسب مسح لمجلس الإنماء في 2005. تمتدّ غرباً من ثانوية دار العلوم حتى نهر الغدير وبمحاذاة المطار، وشمالاً حتى مدرسة المصطفى، وشرقاً حتى مفرق الموقف الجديد في حيّ السّلّم مع متفرّعاته، وجنوباً حتى الجامعة اللبنانية وقرية الصدر النموذجية.
بدأ تطوّر حيّ السلّم في أربعينيات القرن العشرين “مع موجات نزوح أهل القرى البقاعية نحو بيروت التي تشهد نموّاً حديثاً في قطاع الخدمات
وقد تمّت تسمية معظم الشوارع فيه نسبةً إلى أسماء العائلات (حيّ بيت عبدالساتر وحيّ آل شحادة وحيّ آل حيدر وحيّ بيت الحولي وحيّ باقر إلخ.) أو أسماء القرى (حيّ الهبّارية وحيّ شقرا) أو حتى نسبة إلى المنشآت العمرانية (حيّ الجامعة وحيّ الحسينيّة وحيّ مدينة العبّاس وحيّ العبّارة وحيّ البركات).
نشأ على قاعدة الاعتداء أنّ “مجتمع حيّ السلّم والرمل العالي أو “الوافدين” كما أطلق عليهم سكّان المريجة وبرج البراجنة الأصليون، هو مجتمع قلق غير مستقرّ اجتماعياً وثقافياً وسكنيّاً. يعيش هاجس الاعتداء المستمرّ عليه، فيما هو نشأ في الأصل على قاعدة السكن العشوائي غير المنظّم”.
يعتبر أنّ “هذا المجتمع يصارع للبقاء حيث هو، ولذلك تحوّل إلى أعتى مناطق النفوذ السياسي لكلّ الحركات المعارضة والمتعارضة مع السلطة، بدءاً من اليسار إلى منظّمات المقاومة الفلسطينية إلى حركة أمل إلى الحزب اليوم”. هذا الأخير يحكم بأمره تاركاً عباده يتوهون في متاهة التهميش، ممسكاً إيّاهم باليد المكسورة!
لا يزال “سكّان حيّ السلّم بغالبيّتهم في حالة مراوحة أو ضياع بين احتمال العودة إلى مجتمع الأهل والقرية الذي نقلوه معهم افتراضياً إلى المدينة، وبين الإقامة الدائمة”، بحسب الديراني. ويصف إقامتهم “بين الانفصال المبدئي والاجتماع العَرَضي”. ويختم الديراني بأنّ هذا المجتمع كغالبية سكّان ساحل المتن الجنوبي الذي عرف بعد الحرب الأهلية بـ “ضاحية بيروت الجنوبية” لا يزال يخضع لعملية تحوّل اجتماعي لأنّه مجتمع قيد التكوين الدائم.
فما هي التغيّرات التي ستطرأ على أهل الحيّ بعد هذه الحرب، خصوصاً أنّ القصف الإسرائيلي استهدفه اليوم، للمرّة الأولى، منذ 5 عقود تقريباً؟ وهل تدخل الدولة إلى الضاحية وحيّ السلّم في سياق الترتيبات الجديدة التي سيشهدها لبنان؟