كان اتّصال الرئيس الأميركي جو بايدن برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأربعاء “مباشراً وإيجابياً”. هكذا خرج البيت الأبيض بانطباع عن محادثات حضرتها نائبة الرئيس كامالا هاريس، مرشّحة الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية. خرجت السيّدة بعد هذا الاتصال باستنتاج، يبدو أنّه انتخابي صرف، منافس لنظيرها المرشّح دونالد ترامب، بأنّ “إيران هي العدوّ الأوّل للولايات المتحدة” وأنّ لإسرائيل “كامل الحقّ في الدفاع عن نفسها”.
“إيجابية” ما طرحه نتنياهو خلال اتصاله الأخير ببايدن، تعني أنّه يداري أصداء تردّدت في واشنطن والعواصم الحليفة تطالب بوقف لإطلاق النار، أو على الأقلّ “ضبط النفس”، خصوصاً في الردّ الذي تُعدّه إسرائيل ضدّ إيران.
اعترض بايدن علناً على استهداف أيّ منشأة تابعة للبرنامج النووي، ثمّ حذّر من استهداف صناعة النفط في إيران. في لندن صدرت تقارير تتخيّل مستوى ارتفاع أسعار النفط في حال تعطّلت مصادر إيران، وهي الدولة السابعة في إنتاجه. فيما تقارير أخرى أطلقت رعباً من أزمة تشبه تلك التي نشأت عام 1973 إذا ما أغلقت إيران، كما هوّلت، مضيق هرمز ومضائق أخرى في المنطقة.
“إيجابية” ما طرحه نتنياهو خلال اتصاله الأخير ببايدن، تعني أنّه يداري أصداء تردّدت في واشنطن والعواصم الحليفة تطالب بوقف لإطلاق النار
أنصت نتنياهو أيضاً إلى ما اعتُبر “محرّماً” ارتكبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمطالبته بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. استدرج الأمر غضباً مفرطاً في إسرائيل واستنكاراً لأصدقائها في باريس وداخل حزب ماكرون نفسه. لكنّ “الاستثناء” الفرنسي، الذي ينهل عبقه من مخزون ديغوليّ قديم، يبقى استثناءً داخل الاتحاد الأوروبي الذي ما زال “متفهّماً” لحاجة إسرائيل إلى كلّ الدعم العسكري للدفاع عن “وجودها”.
مع ذلك أدرك نتنياهو تآكل هذه المسلّمات، وبدا، على الرغم من سلوكه الداعم لترشيح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة، مكتفياً بجلبة أحدثها بمنع توجّه وزير الدفاع يوآف غالانت إلى واشنطن قبل تواصله مع بايدن، زاعماً أخذ قيود الإدارة بعين الاعتبار في تدبير الردّ على إيران. نال بعدها استحسان البيت الأبيض ودعم المرشّحة لخلافة بايدن لوجهة نظر إسرائيل في العداء لإيران.
نتنياهو بات يربط لبنان بغزّة
تجري عملية تدبير “ضبط النفس” داخل ورشة ليست إيران خارجها. تتسرّب من الغرف المغلقة مسوّدات حلول لإدارة ردّ فعل إيران على ردّ إسرائيل الموعود لإقفال هذا الملفّ، بما يشمل أيضاً وقفاً شاملاً لإطلاق النار في غزّة ولبنان. تنشط همّة الحزب، سواء في تكثيف إطلاق صواريخه صوب العمق الإسرائيلي أو بتعويم رسائله، وآخرها، على لسان نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، الداعية إلى وقف إطلاق النار، في خدمة التموضع الإيراني المتوقّع داخل سيناريوهات الحلّ المنتظر.
من داخل هذا السياق، تخرج إسرائيل بديباجة صفقة بدت مفاجئة غير متوقّعة. يطرح رئيس جهاز الموساد ديفيد بارنياع، وفق إعلام إسرائيلي، في رسالة سلّمها إلى رئيس وكالة المخابرات المركزيّة وليام بيرنز، معادلة تربط، للمفارقة، بين الجبهتين في غزّة ولبنان، بحيث ترتبط صفقة وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية اللبنانية مع صفقة توقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية الغزّيّة وتشمل الإفراج الكامل عن كلّ الرهائن الإسرائيليين.
تتسرّب من الغرف المغلقة مسوّدات حلول لإدارة ردّ فعل إيران على ردّ إسرائيل الموعود لإقفال هذا الملفّ
سيكون صعباً تصديق أنّ رجل الموساد يعلن المبادرة على الملأ وليس داخل الغرف المغلقة من دون معرفة نتنياهو. مع ذلك، وحتى لو تأكّد أنّ المعادلة تحظى برعاية نتنياهو، فلا شيء يضمن عدم تملّصه منها برشاقة وبسهولة، ولا شيء يمنع اعتبارها، أصلاً، مناورة لتمرير الوقت والتخفيف من “ثرثرة” واشنطن والحلفاء بشأن ضبط النفس والخروج من مأزق “الحرب الشاملة”.
اللافت أنّ في مبادرة الموساد إقراراً بأنّ للحرب نهاية وأنّها ليست ذاهبة إلى تغيير الشرق الأوسط، بالنسخة الاجتثاثية التي “بشّر” بها نتنياهو. غير أنّ المبادرة غير واضحة في شقّها اللبناني، ما دامت مدخلاً للنفاذ من المخرج في غزّة. وعلى خلفية استفاقة “الموساد” هذه، ترسل إسرائيل إشارات، بعضها تجريبي لجسّ النبض، وبعضها الآخر يقوم على أسس قد تجد لها في واشنطن وعواصم الغرب مريدين وداعمين.
إسرائيل تريد إضافات على 1701
إضافة إلى توجّه نتنياهو إلى اللبنانيين محرّضاً إيّاهم على الانقلاب على الحزب وأمره الواقع مستفيداً من موقف أميركي مماثل، فإنّ ما بدأ يتسرّب على شكل تقويمات “جنرالات” متقاعدين (وهي تعبّر عادة عن توجّهات إسرائيل الاستراتيجية)، يكشف أنّ إسرائيل باتت تعتبر أنّ قرار مجلس الأمن رقم 1701 متقادماً أو على الأقلّ آليّة تنفيذه غير كافية.
سيكون صعباً تصديق أنّ رجل الموساد يعلن المبادرة على الملأ وليس داخل الغرف المغلقة من دون معرفة نتنياهو
تتحدّث بعض النصوص عن استبدال قوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة بقوات متعدّدة الجنسيات، على النحو الذي عرفه لبنان بعد اجتياح عام 1982، على أن تأتي من دول صديقة لإسرائيل ولبنان، وتنتشر داخل كلّ منطقة الجنوب وليس فقط جنوب نهر الليطاني. وربّما هذا ما قد يفسّر الاستهداف الإسرائيلي للقوات الأممية هذه الأيام. فيما تطالب نصوص أخرى بتغيير مشهد السلطة في لبنان ليتلاءم مع الواقع الجديد ابتداء بانتخاب رئيس للجمهورية غير موالٍ للحزب. وهو أمر لمّح إليه المندوب الأميركي في مجلس الأمن.
يرفع الحلّ الإسرائيلي في لبنان سقوفاً قصوى ويحظى بأعراض احتضان في واشنطن. تسعى إسرائيل لاقتراح إنهاء واقع الوصاية التي تمارسها إيران وحزبها في لبنان. وهو أمر سيقابل حتماً برفض ومقاومة من طهران ظهرت أعراضهما في مواقف وزير الخارجية عباس عراقجي في بيروت، لكن أيضاً في رفض رئيس مجلس النواب نبيه بري العودة إلى القرار 1559 واعتباره “صار ورانا وينذكر ما ينعاد”. غير أنّ هذه الدينامية تبدو متناقضة مع الفكرة الإسرائيلية لـ “ربط الجبهات” من حيث إنّ إنتاج صفقة لإطلاق سراح الرهائن في غزّة سيحتاج نظرياً إلى تدخّل إيران نفسها لدى حركة حماس ورئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار.
إقرأ أيضاً: تطمينات أميركيّة بخفض الضّربات على الضّاحية!
تكمن الخطورة في أنّ إسرائيل التي تستعدّ للردّ العسكري ضدّ إيران تحت سقف “ضبط النفس” المطلوب في واشنطن، تقترح حلّاً للجبهتين يتمّ طرحه تحت النار في الجبهتين. ويعني الأمر أنّ سقوفها اللبنانية العالية قد تلاقي مُنصِتين لأوّل اقتراح حادّ الملامح يتطلّب مقاربة دولية تنصب فوق لبنان مظلّة تستدعي تدخّلاً عسكرياً بشكل آخر في جنوب البلاد، وضغوطاً مجتمعة من العواصم البعيدة والقريبة لإنتاج منظومة حكم قد يكون مدخلها انتخاب “وفاقي” للرئيس.
هذا تماماً ما تضغط واشنطن لتمريره وفق ديباجة “معدّلة مطوّرة” كان الثنائي نجيب ميقاتي – برّي قد أطلقها. وبدت، على الرغم من خجلها وغموضها وفخاخها، مدخلاً لملاقاة التزامات مقبلة متدحرجة سيطالب بها رعاة الحلّ الدوليون والإقليميون.
لمتابعة الكاتب على X: