“لا تدع أزمة جيّدة تذهب سدى”.
هذه العبارة المنسوبة خطأً إلى ونستون تشرشل، تنطبق، في رأي الدبلوماسي الأميركي العتيق فريدريك هوف، بشكل خاص على الأزمة السياسية والعسكرية والإنسانية التي يعيشها لبنان حالياً وتتميّز بمحاولة إسرائيل إزالة وتدمير القدرات العسكرية لما كان أقوى كيان غير حكومي في هذا العالم: الحزب. وفي رأيه أنّه “على حكومتي لبنان وإسرائيل أن تقرّرا عدم إضاعة فرصة هذه الأزمة للتوصّل إلى حلّ أكثر استدامة”.
هوف، الذي خدم ملحقاً عسكرياً في سفارة بلاده في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، وكان لاحقاً مدير مكتب وزير الدفاع الأميركي للأردن ولبنان وسوريا والشؤون الفلسطينية، ثمّ المبعوث الأميركي للمرحلة الانتقالية في سوريا عام 2012، بصفة سفير لواشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما… يدرك أنّه قد يبدو من السابق لأوانه الحديث عن الدبلوماسية في ظلّ الحملة الجوّية المدمّرة التي تشنّها إسرائيل على نطاق واسع في أنحاء كثيرة من لبنان، واستمرار عمليات الحزب في جنوبه.. وكأنّ الحكومة اللبنانية غير ذات صلة أو حتى ذات سيادة، نظراً لعجزها عن حماية أراضيها أو شعبها، وأنّ مصير الحزب نفسه غير واضح، فضلاً عن دوره في معادلة القوة الوطنية، وأنّ هذه الأزمة ستحمل معها سلسلة طويلة من الموت والإرهاب والبؤس، وخاصة للمدنيين.
غير أنّه، بحكم خبرته التفاوضية الدبلوماسية، إذ تولّى الوساطة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بين عامَيْ 2010 و2012، وهو صاحب ما يُعرف بـ”خطّ هوف”… يعلم أنّ “كلّ الحروب لها نهاية، ولا ينبغي لحكومتَي لبنان وإسرائيل استبعاد احتمال التوصّل إلى حلّ أكثر استدامة لكلا الجانبين، بمجرّد أن تهدأ أعمال العنف الرهيبة. فإذا قرّر كلّ منهما ألّا تضيع الأزمة الحالية هباء، وألّا تكون مجرّد مقدّمة لجولة أخرى من إراقة الدماء، فقد يتصرّفان الآن على نحو يفتح الأبواب أمام بدائل حضارية”.
لبنان يحتاج إلى مُحاوِر دائم وفعّال على طول الخطّ الأزرق، وفقاً لهوف
هل مِن مُحاوِر؟
يعتقد هوف أنّ “إحدى الطرق لكسر حلقة إراقة الدماء التي لا نهاية لها تتلخّص في وجود محاور على الجانب الآخر من الخطّ الأزرق على استعداد لمناقشة المخاوف الأمنيّة وقادر على تنفيذ التدابير المتّفق عليها بشكل متبادل”، ويشير إلى أنّ “آليّة فعّالة للغاية لمثل هذه العلاقة كانت قائمة منذ عام 1949 حتى حزيران 1967 في هيئة اتفاقية الهدنة العامّة بين إسرائيل ولبنان، بوساطة الأمم المتحدة”.
في رأيه أنّ “اتفاقية الهدنة بين إسرائيل ولبنان هذه، من بين اتفاقيات الهدنة الأربع التي أنهت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، كانت الوحيدة التي عملت على النحو المطلوب. فقد عملت لجنة الهدنة المشتركة بين إسرائيل ولبنان، التي تضمّ ضابطين إسرائيليَّين وضابطين لبنانيَّين وضابطاً من الأمم المتحدة، بكفاءة وودّ. واستمرّ هذا حتى أثناء حرب عام 1967 التي لم يشارك فيها لبنان، والتي أدّت إلى انتهاء خطوط الهدنة الإسرائيلية مع مصر والأردن وسوريا إلى مؤخّرة الخطوط الأمامية الإسرائيلية وإعلان إسرائيل إلغاءها”.
“هذه الهدنة التي نجحت مع لبنان الذي ظلّ خارج الحرب”، يسأل هوف، “لم لا يعمل بها اليوم؟”.
العودة إلى “هدنة 1949”
يكتب هوف في موقع “نيو لاين”: “صحيح أنّ إسرائيل تخلّت عن هذه الهدنة أيضاً. وبعد فترة وجيزة خسر لبنان السيطرة على مناطقه المتاخمة لإسرائيل ومرتفعات الجولان، أوّلاً بسبب حركة المقاومة الفلسطينية، ثم ولاحقاً بسبب الحزب… لكن على الرغم من انهيار الدولة اللبنانية أثناء الحرب الأهلية في الفترة 1975-1990، ومرّة أخرى في الآونة الأخيرة، فقد أكّدت حكومة لبنان باستمرار أنّ الهدنة مع إسرائيل لا تزال قائمة. وهذا الموقف مكرّس في اتفاق الطائف الذي أرسى في عام 1989 الأسس لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان”.
في رأيه أنّ “اتفاقية الهدنة بين إسرائيل ولبنان هذه، من بين اتفاقيات الهدنة الأربع التي أنهت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948
يضيف هوف: “قد يزعم بعض المتشكّكين أنّ لبنان التزم الهدنة من حيث المبدأ ليس لأنّه يرغب في تولّي المسؤولية والتفاعل مع الضباط الإسرائيليين لتأمين الحدود اللبنانية الإسرائيلية والحفاظ على السلام، بل لأنّ شروط الهدنة التي أبرمت عام 1949 حدّدت عدد جنود لبنان بألف وخمسمئة جندي فقط جنوب خطّ يقابل نهر الليطاني تقريباً. وقد يكون من يتشكّك في هذا الرأي محقّاً. فمن خلال الادّعاء بأنّ الهدنة تقيّد عدد جنود لبنان، كان بوسع الحكومات اللبنانية المتعاقبة نشر قوات كافية في جنوب لبنان للتعامل مع الوجود المسلّح غير الشرعي للحزب. في الواقع، من خلال قبول الادّعاء الكاذب للحزب بأنّه “المقاومة اللبنانية”، أعطت الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة وغير الكفوءة وكيل إيران غطاءً من الشرعية، وهو ما يتناقض تماماً مع التزامات لبنان بموجب هدنة عام 1949”.
يستغرب هوف صمت رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي بشأن هذه الهدنة بعدما كان قد تحدّث علناً في أوائل عام 2024 عن استمرار أهميّتها، وتأكيده بدلاً من ذلك الحاجة إلى مساعدة الأمم المتحدة في فرض قرار مجلس الأمن رقم 1701، القرار الذي أنهى حرب إسرائيل والحزب عام 2006. فقد أعلن ميقاتي استعداده لإرسال عشرة آلاف جندي لمساعدة قوّة الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان في دوريّاتها في جنوب لبنان بمجرّد سريان وقف إطلاق النار. لكن لأنّ لبنان لم يعد بحاجة إلى الاختباء وراء حدّ الهدنة البالغ 1,500 جندي، فقد تكون الهدنة نفسها قد فقدت فائدتها وأهمّيتها داخل الدوائر السياسية اللبنانية.
إبعاد مقاتلي الحزب من جنوب اللّيطاني
يعتبر هوف أن “لا فرق بين القرار 1701، وبين هدنة 1949، أو كليهما، إذا أمكن إبعاد مقاتلي الحزب من جنوب الليطاني، وهذا أمل كبير، من خلال الجهود المشتركة التي تبذلها قوة الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان والقوات المسلّحة اللبنانية”.
يعتبر هوف أن “لا فرق بين القرار 1701، وبين هدنة 1949، أو كليهما
غير أنّ التحدّي هنا يتلخّص، في رأيه، بعدم السماح بإهدار “أزمة جيّدة”. فلماذا يكتفي لبنان بدور مساعد في تأمين أراضيه وتحقيق الاستقرار فيها، فيخضع فعليّاً لقوات اليونيفيل في تنفيذ ذلك الجزء من القرار 1701 الذي يقضي بإزالة قوات الميليشيات؟ ولماذا لا يُنظَر إليه باعتباره قادراً على أن يتولّى المسؤولية من خلال تحدّي إسرائيل لإحياء ومراجعة هدنة لا يزال لبنان يعترف بصلاحيّتها ولم يكن ينبغي له التخلّي عنها أبداً؟
يعتقد هوف أنّ “أيّ عرض من هذا القبيل للمبادرة اللبنانية سوف يحظى بدعم قوي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأماكن أخرى. وقد ترفضه إسرائيل. ولكن عليها أن تفكر مليّاً قبل السماح بإهدار هذه الفرصة”.
لبنان يحتاج إلى مُحاوِر دائم وفعّال على طول الخطّ الأزرق، وفقاً لهوف. “وعلى الرغم من أنّ قوات اليونيفيل كانت قوّة “مؤقّتة” منذ عام 1978، إلا أنّها في رأيه لا تشكّل بديلاً عن الدولة اللبنانية القادرة غير الموجودة حالياً. لكنّ الحكومة اللبنانية التي ينظر إليها شعبها على أنّها تحاول التصرّف وكأنّها تتمتّع بالسلطة، قد تحظى ذات يوم بسلطة مماثلة.
الواقع أنّ الضغط من أجل التوصّل إلى هدنة جديدة ومنقّحة قد يشكّل خطوة مهمّة لبناء الدولة في لبنان. وهي الخطوة التي لن تقلّل بأيّ حال من احتمالات تنفيذ القرار 1701
الواقع أنّ الضغط من أجل التوصّل إلى هدنة جديدة ومنقّحة قد يشكّل خطوة مهمّة لبناء الدولة في لبنان. وهي الخطوة التي لن تقلّل بأيّ حال من احتمالات تنفيذ القرار 1701. والحزب، نظراً لتكريس الطائف لهذه الهدنة، لن يتمكّن (خلافاً لموقفه من القرار 1701) من رفضها إلا من خلال إضفاء الطابع الرسمي على عزلته عن لبنان نفسه”.
إقرأ أيضاً: إغناتيوس: إسرائيل كانت ستضرب “السّيّد” في 11 أكتوبر
هوف، الذي يشغل اليوم منصب “زميل متميّز متخصّص بالشؤون السوريّة” في “مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط” التابع لـ”المجلس الأطلسي”، بعدما كان مديراً للمركز من عام 2016 إلى عام 2018، يخلص إلى القول: “على الرغم من إراقة الدماء والفوضى الحالية، يجب على كلّ جانب أن يرى فائدة في إحياء الهدنة وتعديلها، وأن يسعى جاهداً إلى ضمان عدم هدر الأزمة الحالية. فالأزمة نفسها، وخاصة آثارها المروّعة على المدنيين، لا بدّ أن تبدأ في الانحسار قريباً. وإلّا فلن يكون أيّ دعم لأيّة حكومة لا تسعى إلى بدائل حضارية للمعاناة المدنية التي لا توصف”.
لقراءة النص الأصلي: