إعلان بعبدا 2012: طريق لبنان نحو الاستقرار

مدة القراءة 7 د

لبنان و”حرب الآخرين”: كيف أصبح لبنان ساحة معركة للقوى الإقليمية والدولية خلال الحرب الأهلية التي استمرّت 15 عاماً؟ وما هي المخاطر اليوم؟

تقول أغنية شعبية لبنانية إنّه “بيكفي إنّك لبناني”.

ربّما لا يتردّد صدى هذا الشعور لدى أيّ جيل أكثر من جيلي. جيل الذين ولدوا في لبنان خلال السبعينيات والثمانينيات. كثر من هذا الجيل شهدوا الغزو الإسرائيلي عام 1982، لكنّهم جميعاً عانوا الحروب الإسرائيلية على لبنان في أعوام 1993 و1996 و2006، وتحمّلوا دورات عنف متكرّرة طوال الحرب الأهلية، وسمعوا عن فظائع مثل مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982 والمذابح الطائفية المرتبطة بحرب الجبل.

وبعدما عاشوا هذه الجولات من العنف كأطفال أو مراهقين أو بالغين، يواجهون الآن، كآباء، دورات أخرى من الدمار من انفجار مرفأ بيروت في آب 2020 الى الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، في اختبار لإيمانهم الراسخ بالقدرة على الصمود باعتبارها السمة المميّزة لكون المرء لبنانيّاً.

لبنان و”حرب الآخرين”: كيف أصبح لبنان ساحة معركة للقوى الإقليمية والدولية خلال الحرب الأهلية التي استمرّت 15 عاماً؟ وما هي المخاطر اليوم؟

قليلة هي مناطق العالم التي أدامت قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لدرجة تخليدها كما فعلت المنطقة العربية. وحتى يومنا هذا، لا تزال البيانات الرسمية الصادرة عن جامعة الدول العربية والاجتماعات الثنائية تشير بشكل متكرّر إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 194 بشأن اللاجئين الفلسطينيين، والقرار 242 بعد حرب عام 1967، والقرار 338 الصادر في تشرين الأول 1973.

بالطبع، كان للبنان نصيبه من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فحتى أيار 2000، كانت بيانات المؤسّسات الحكومية والسياسيين في لبنان تشير بانتظام إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 425، الذي اعتمد في آذار 1978، والذي دعا إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان. وكانت تجربة لبنان مع قرارات مجلس الأمن متباينة: ففي حين نتج القراران 425 و1701 عن جهود دبلوماسية استباقية، فإنّ قرارات أخرى، مثل قرارَي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1559 و1680، أدّت إلى تفاقم الاحتكاكات والتوتّرات الداخلية.

حجج لبنان حول 1701

منذ 8 تشرين الأول 2023، عندما اختار الحزب استخدام جنوب لبنان جبهة إسناد لغزة، وحتى هجوم أجهزة البيجر في 18 أيلول 2024، بذل المسؤولون اللبنانيون جهوداً كبيرة لشرح سبب عدم تمكّن لبنان من تنفيذ القرار 1701، الذي تمّ إقراره في آب 2006 وأنهى الصراع الإسرائيلي الذي دام 34 يوماً في لبنان.

كان مبرّرهم أنّه إلى أن يتمّ التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، فلن يتمكّن لبنان من فرض السيطرة ونزع السلاح الكامل في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني. وخلال هذه الفترة، تمسّك ممثّلو مؤسّسات الدولة اللبنانية بالرواية القائلة بأنّ مصير الجبهة الجنوبية للبنان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بغزة. الأمر الذي أدّى فعليّاً إلى تأجيل واجبهم في التفاوض على وقف إطلاق النار واستعادة السيطرة على منطقة العمليات في جنوب لبنان.

على مدى عشرة أشهر، بدا أنّ النخبة الحاكمة تعتقد أنّ الحرب التي تمّ احتواؤها في الجنوب قد تتحوّل إلى حرب استنزاف أخرى

تغيّرت هذه الرواية إلى حدٍّ كبير في أعقاب الهجمات المكثّفة التي شنّتها إسرائيل في الأسبوعين الماضيين، والتي شملت قتل المدنيين، واغتيال شخصيات رئيسية في الحزب، من بينها الأمين العام للحزب، وفرض حصار عسكري على لبنان، إضافة إلى تدمير الممتلكات، والتشريد القسري لأكثر من مليون شخص. والآن يطالب لبنان رسمياً بوقف إطلاق النار ويصرّ على إرادته واستعداده لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701. غير أنّ إسرائيل تجاهلت هذه النداءات، وواصلت حملتها من التدمير والاغتيالات المستهدفة والتشريد الجماعي.

سياسيّو لبنان و”فنّ الوعود الفارغة”

يتقن المسؤولون اللبنانيون حقّاً فنّ الوعود الفارغة. في مقال سابق، قمت بتقويم مصير الإصلاحات التي تعهّدت بها مؤتمرات “باريس 2″ و”باريس 3″ و”سيدر”. بعد انفجار الرابع من آب، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان مرّتين، واقترح خارطة طريق للتعافي وإعادة الإعمار والإصلاحات. تبنّى الساسة اللبنانيون مقترحات ماكرون بحماسة، وتعهّدوا بتشكيل سريع لحكومة تكنوقراطية مهمّتها تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وإطلاق مشروع التعافي في غضون شهر. لكن تمّ تشكيل حكومة نجيب ميقاتي بعد أكثر من عام. وفي نيسان 2022، تعهّدت النخبة السياسية بتنفيذ الاتفاقية على مستوى الموظّفين الموقّعة مع صندوق النقد الدولي، لكن لم يتمّ تنفيذ أيّ شيء.

على مدى عشرة أشهر، بدا أنّ النخبة الحاكمة تعتقد أنّ الحرب التي تمّ احتواؤها في الجنوب قد تتحوّل إلى حرب استنزاف أخرى، على غرار الصراع الذي أعقب حرب حزيران 1967، واستمرّ لمدّة ثلاث سنوات. افترض هؤلاء الساسة أنّ الوقت في مصلحتهم. وهو ما سمح لهم بتجاهل الحرب والتعامل معها باعتبارها قضية خارجية بينما ظلّوا غارقين في المساومات السياسية اليومية في لبنان.

الآن يطالب لبنان رسمياً بوقف إطلاق النار ويصرّ على إرادته واستعداده لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701. غير أنّ إسرائيل تجاهلت هذه النداءات

وعدوا بوضع خطّة للتعامل مع موجات النزوح. لكنّ هذه الخطّة كانت تفتقر إلى الموارد الكافية والتنسيق. واليوم يعيش اللبنانيون مرحلة خطيرة قد تتجاوز خطورتها غزو عام 1982 أو حرب عام 2006. لكنّ السؤال الحقيقي هو ما إذا كان يكفي مجرّد إعادة تأكيد الالتزام بتنفيذ القرار 1701، نظراً لانعدام الثقة، وتاريخ الوعود الفارغة، واختلال النظام السياسي، علاوة على الدبلوماسية غير الفعّالة على الإطلاق.

العودة إلى “إعلان بعبدا”

يجب على النخبة الحاكمة إعطاء الأولوية لوقف إطلاق النار لإنهاء المعاناة التي يتحمّلها الشعب اللبناني في خضمّ حملة عسكرية وحشية لا هوادة فيها. كما أنّ انتخاب رئيس للجمهورية يشكّل خطوة عاجلة. ويتعيّن على الرئيس ورئيس الوزراء الجديدين الالتزام بإحياء “إعلان بعبدا”، وهو اتفاق سياسي لبناني أُقِرّ في حزيران 2012 لإعادة تأكيد حياد لبنان وفصله عن الصراعات الإقليمية، وخاصة الصراع السوري.

هذا الاتفاق، الذي وقّعه معظم القادة السياسيين اللبنانيين، يهدف إلى تحقيق الاستقرار في لبنان من خلال تعزيز عدم التدخّل في الأزمات المجاورة. ومن المؤسف أنّ تورّط الحزب في سوريا وخارجها قوّض تنفيذه.

إقرأ أيضاً: متى يستوعب الحزب أن لا عودة إلى تجربة 2006؟

على الرغم من تركيزه في البداية على سوريا، فإنّ إعلان بعبدا يمكن تحديثه بسهولة لمعالجة الديناميكيات الإقليمية الحالية في لبنان. ولا يوجد حلّ قابل للتطبيق لأزمة لبنان من دون “إعلان بعبدا 2” الذي يعزّز سيادة لبنان وأمنه واستقراره، من خلال دعوة جميع الفصائل السياسية إلى إبعاد لبنان عن التشابكات الخارجية.

لقد عمّم الصحافي والدبلوماسي اللبناني الراحل غسان تويني، الذي فاوض على قرار مجلس الأمن رقم 425، مفهوم “حروب الآخرين على لبنان” لوصف كيف أصبح لبنان ساحة معركة للقوى الإقليمية والدولية خلال الحرب الأهلية التي استمرّت 15 عاماً. والآن حان الوقت للدفاع عن “إعلان بعبدا 2” لحماية لبنان من التدخّل الأجنبي ومنع الجماعات اللبنانية من التدخّل في شؤون الدول الأخرى.

* خليل جبارة: خبير في الحكم والتنمية المحلّية والسياسة العامة. باحث وأكاديمي ومستشار حكومي. أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) ومستشار أوّل لمرصد الأزمات في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB). شغل بين شباط 2014 وشباط 2019 منصب مستشار السياسات والشؤون الدولية لوزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق. وشغل بين عامَي 2010 و2014 منصب رئيس وحدة الحكم الرشيد في مكتب رئيس الوزراء سعد الحريري. وفي كانون الأول 2008، عيّنته الحكومة اللبنانية عضواً في “لجنة الإشراف على الانتخابات” بنسختها الأولى. كان أيضاً مديراً لـ”جمعية الشفافيّة اللبنانية – فرع الشفافية الدولية في لبنان”، بين عامَي 2005 و2008. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من جامعة إكستر في المملكة المتحدة.

*نقلاً عن NOW Lebanon

لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…

مآلات الحرب على كلّ جبهاتها: سقوط المحور

لم تنتهِ بعد حرب الشرق الأوسط المتعدّدة الساحات والتسميات.. طوفان الأقصى والسيوف الحديدية والإسناد إلخ…. لذا لن تكون قراءة النتائج التي أسفرت عنها نهائية حاسمة،…