لم يكن الحزب في صورة ما كان يُعّده يحيى السنوار و”كتائب عز الدين القسام” التابعة لحركة “حماس” لتنفيذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023). ولم تكن بقيّة فصائل “محور المقاومة” على علم بـ “زلزال” عرفوا به كبقيّة العالم عبر وسائل الإعلام. وفداحة هذا الواقع تكمن في جهل القيادة الإيرانية، لا سيما المرشد، علي خامنئي والحرس الثوري، بأمر جلل كبير يقوم به واحد من الفصائل الأساسية في “المحور”. أحدث “الطوفان” إرباكاً في طهران ولدى “أذرعها”. ومع ذلك كان على لبنان وحده أن يدفع ثمناً غالياً لفاتورة هذا الارتباك.
يُسجل للأمين العام للحزب الراحل إقراره في 27 آب 2006، أي بعد أسبوعين من انتهاء “حرب تموز”، بأنّه “لو كان يعلم” أنّ عملية أسر جنديين إسرائيليَّين في 12 تموز 2006 “كانت ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعاً”. لكنّ أسئلة تُطرح، بعد عام على “الطوفان”، عمّا قاد الراحل إلى الاستمرار في حرب “إسناد وإشغال” لم يكن مفاجئاً أن تقود، في ظلّ تهديد ووعيد إسرائيليَّين، إلى ما يُفترض أن نكون قد علمناه سابقاً من نتائج يدفع لبنان، بطوائفه جميعاً وشيعته خصوصاً، ثمنها غالياً.
قرّر الحزب مباشرة هذه الحرب في 8 تشرين الأول 2023، أي بعد يوم على عملية “طوفان الأقصى” التي لم يكن هو وإيران وفصائل “المحور” يعرفون عنها شيئاً
قرّر الحزب مباشرة هذه الحرب في 8 تشرين الأول 2023، أي بعد يوم على عملية “طوفان الأقصى” التي لم يكن هو وإيران وفصائل “المحور” يعرفون عنها شيئاً، أو هذا ما استماتت طهران في تأكيده. ولا يمكن قرار “الإسناد”، بحكم العلاقة البنيوية بين الحزب وإيران، إلا أن يكون صادراً من طهران لفصيل لبنان فقط دون فصائل المنطقة الأخرى. ولئن زار وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان بيروت بعد أيام من “تفعيل” جبهة لبنان، غير أنّ تصريحاته بدت أنّها تبعث رسائل من نوع آخر، ربّما لواشنطن، تؤكّد “حرص إيران على الأمن في لبنان”. فكيف استقامت “صقوريّة” الحزب مع “حمائميّة” دولة الوليّ الفقيه ووزيره؟
تناقض بين الضاحية وطهران
أشعل الحزب جبهة جنوب لبنان للقتال، بشكل ما، إلى جانب المقاومة في غزّة. غير أنّ هذا الخيار كان مناقضاً تماماً لمزاج الحاكم في طهران الذي أفرطت منابره الرسمية، السياسية والعسكرية، في تأكيد عدم علاقة إيران بعملية “الطوفان”. حتّى إنّ وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، تطوّع للمشاركة في العزف داخل الجوقة الإيرانية. فاستعجل، في 8 تشرين الأول 2023، أي بعد يوم واحد من عملية غزّة، الإعلان أنّ الولايات المتحدة “لا تملك معطيات عن تورّط إيران”. ولمن لم يصدّق بعد، نشرت وكالة “رويترز” لاحقاً، بالاستناد إلى 3 مسؤولين إيرانيين، تأكيداً من طرف المرشد، علي خامنئي، يعلن عدم علاقة بلاده بالعملية وعدم علمها بها وعدم استعدادها للتحرّك دعماً لها. وذكرت الوكالة أنّ “المسؤولين” أكّدوا أنّ المرشد أنّب رئيس المكتب السياسي الراحل، إسماعيل هنيّة، الذي زاره أوائل ذلك الشهر، على كون حركته “لم تبلغ إيران بالهجوم، وبالتالي لن تدخل الجمهورية الإسلامية الحرب نيابة عنها”.
أشعل الحزب جبهة جنوب لبنان للقتال، بشكل ما، إلى جانب المقاومة في غزّة. غير أنّ هذا الخيار كان مناقضاً تماماً لمزاج الحاكم في طهران
تحرّك الحزب في لبنان باكراً، قبل أن تتحرّك جماعة الحوثي في اليمن، في تشرين الثاني 2023، لتهدّد أمن الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب دعماً لغزة، وقبل أن تتحرّك فصائل في العراق لتناوش أهدافاً إسرائيلية وتحشد على الحدود الأردنية طلباً للزحف لنجدة فلسطين.
كيف تصرّف لبنان الرّسميّ؟
كانت الحكومة ورئيسها يعرفون جميعاً أنّ لبنان يتعرّض في السياسة والأمن والاقتصاد لأزمة “تاريخية”، حتى على مستوى العالم، وفق تقرير شهير للبنك الدولي، ولا يحتمل استدراجاً مبرمجاً لحرب غزّة صوب لبنان. وكان ساسة البلد جميعهم يتأمّلون الدعم الغربي الهستيري اللامحدود الذي استمرّت إسرائيل بالتمتّع به، تسليحاً وتمويلاً ورعاية وتفهّماً وغضّ طرف عن أقذر جرائم الإبادة التي تنفّذ على الهواء مباشرة في غزّة. وإذا ما تدافعت وجوه سياسية معارضة للحزب تحذّر من جرّ البلد، من جديد، إلى “حروب الآخرين”، وتحفّظت وجوه أخرى، منها قريب من الحزب، على نجاعة “الإسناد والإشغال” في دعم غزّة وإنقاذها… فإنّ بلادة سادت الخطاب العامّ إمّا مسايرة للحزب أو خوفاً من بطشه أو استغراقاً في شعبوية مغرضة أو ساذجة عرفناها في مناسبات مشابهة.
تمدّد حريق “طوفان الأقصى” في غزّة ليصيب لبنان بكارثة جديدة، بعدما كاد انفجار مرفأ بيروت، في 4 آب 2020، قبل ذلك أن يزيل عاصمة البلد من الوجود. عُدّ الانفجار أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ الحديث. ويأتي “الطوفان” ليتيح لإسرائيل مناسبة انتقام لا رادع لها ضدّ الحزب وقياداته وبناه التحتية وضدّ البلد، بشراً وحجراً ومساراً ومصيراً، من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله. وحين بدأت كرة النار تتدحرج، استفاق ساسة البلد، لا سيما حكومتهم، على قدَر كان حذّر منه الموفدون الدوليون. بعضهم كان أتى بعجالة يهمس في أذن بيروت خططاً إسرائيلية جاهزة لتدمير البلد على رأس ساكنيه. ولسان حال كلّ الموفدين كان يردّد أنّ الأمر سيحصل “وما باليد حيلة”.
تحرّك الحزب في لبنان باكراً، قبل أن تتحرّك جماعة الحوثي في اليمن، في تشرين الثاني 2023، لتهدّد أمن الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب دعماً لغزة
اغتيال نصرالله… وإصرار عراقجي
قتلت إسرائيل الأمين العام للحزب. قضت قبلها ومنذ 8 تشرين الأول، على مئات من قيادات الميدان والقيادات العليا للحزب. وها هو ينتهي العام الأوّل من بدء هذه الحرب على أسئلة بشأن حرب تشنّها إسرائيل من دون هدف وأجل محدّدين. بالمقابل تشرّع الكارثة الأبواب لأسئلة أخرى بشأن ما تخطّطه العواصم الكبرى للبنان والمنطقة في ظلّ غياب مريب ومخيف لهمّة دبلوماسية جدّية على منوال تلك التي أنهت حرب تموز 2006 بعد 33 يوماً من اندلاعها. ويطرق “الزلزال” أبواب اللبنانيين موقظاً السؤال السرمدي: “ما العمل؟”.
في ظلال اندثار عام على “الطوفان” وأنوائه اللبنانية، تكاد تغيب أصوات دولية، باستثناء مبادرات فرنسا وغضب رئيسها، لوقف الحرب في لبنان. في بعض الهمس في العواصم أن لا شريك لبنانياً في الحلّ ما دام قرار الحرب والسلم، وعلى ما يبدو ما يزال، بيد الحزب وحده. فحتى جرأة الحكومة على التلميح إلى القبول بوقف إطلاق النار واحترام قرار الأمم المتحدة رقم 1701 وإرسال الجيش إلى جنوب الليطاني وفصل جبهة لبنان عن جبهة غزّة، تصدّى لها “إنزال” إيراني نفّذه وزير الخارجية عباس عراقجي في بيروت. بدا في ما خفي وما عُلم أنّه انقلاب على قرار بيروت، وتذكير لمن سها عنه الأمر بأنّ السلم ورفع غيمة الحرب في لبنان أمر يُقرَّر في طهران وبشروطها. وقبل أن تتأكّد العواصم الكبرى من وجود “دولة” في لبنان، سيكون صعباً إنهاء الحرب وفرض ذلك على إسرائيل.
إقرأ أيضاً: 2023 بداية الانكشاف الإيرانيّ!
يعترف بيان الحزب في الذكرى الأولى لـ”الطوفان” بالأثمان الفادحة التي دفعها وتكبّدها لبنان واللبنانيون من أجل غزّة. من الأحرى استخلاص العبر، وإعمال العقل، والانخراط في عالم الواقع لا المتخيّل، وفهم موازين القوى ولعبة الأمم، وعدم الوقوع كالصغار في عالم يديره الكبار.
لمتابعة الكاتب على X: