عام على الطّوفان: العرب يتقدّمون

مدة القراءة 9 د

في حين كان يُنظر إلى المنطقة باعتبارها تعيش عصر القوّة الإيراني نتيجة تمدّد طهران الجيوسياسي، وتزعّمها محوراً يمتدّ من صنعاء إلى غزة، مروراً ببغداد ودمشق وبيروت… وفيما كان نظام الملالي يُنشِىء توازناً داخلياً جديداً ينقل الدينامية السياسية من دائرة التنافس بين الإصلاحيين والمحافظين، ويحصرها بالمتشدّدين بين الـ”لايت” والأكثر تشدّداً، في دلالة تعكس حجم ثقة طهران بقوّة أوراقها الاستراتيجية، أتت عملية “طوفان الأقصى” لتنتج مشهداً مضلّلاً يشي بتحوّل تاريخي يغيّر وجه المنطقة ويتوّج إيران على زعامة العالم الإسلامي بجناحَيه، بعدما صار الإسلام السياسي السنّي جزءاً من محور المقاومة… لكن بعد عام من “الطوفان”، يبدو أنّ الآية انقلبت 180 درجة، إلى العكس تماماً ممّا كانت تريده إيران منذ 7 أكتوبر.

 

من “صلاة الفتح” إلى “النّكبة الثّانية”

توشك نتائج عملية “طوفان الأقصى” على تغيير وجه المنطقة فعلاً، لكن ليس وفق ما كانت تشتهيه طهران وتخطّط له، بل بالاتجاه المعاكس. إذ تصبّ المؤشّرات السياسية في خانة تراجع سطوة إيران على المنطقة، وإضعاف حلفائها. فهل يؤدّي هذا التراجع إلى عودة العرب للعب دور فاعل وأساسي ومحوري في المنطقة، ولتكون لهم كلمة أساسية في إعادة تشكيل مستقبل الشرق الأوسط؟

أتت عملية “طوفان الأقصى” لتنتج مشهداً مضلّلاً يشي بتحوّل تاريخي يغيّر وجه المنطقة ويتوّج إيران على زعامة العالم الإسلامي بجناحَيه

في 7 أكتوبر (تشرين الأول الماضي)، عمّت الفرحة في العالمين العربي والإسلامي، وكاد المسلمون يقيمون صلاة الفتح التي نسوا عدد ركعاتها. بيد أنّ أيّ انتصار ميداني لا يمكن ترجمته في السياسة، يُصبح وبالاً ومأساة تاريخية، ولا سيما حينما يكون مصحوباً بأخطاء جسيمة في الحسابات الاستراتيجية. المثال الأوضح على ذلك يتمثّل في احتلال إسرائيل لسيناء مرّتين. في المرّة الأولى خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ويومها خرجت تجرّ أذيال الخيبة، وأهدت الرئيس المصري جمال عبد الناصر انتصاراً حوّله إلى زعيم عربي وإقليمي، نتيجة خطأ في قراءة التوازنات الدولية، الأمر الذي تلافته إسرائيل في المرّة الثانية عام 1967، فأحدثت زلزالاً في المنطقة لا يزال يتردّد صداه حتى يومنا هذا، منحه الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل اسماً مُخفّفاً بديلاً عن اسم “الهزيمة”، وهو “النكسة”.

كانت رهانات حماس، ومن خلفها إيران ومحورها، قائمة على أنّ إسرائيل ليس في وسعها تحمّل الكلفة البشرية المؤلمة لاجتياح غزة، ولا حرب طويلة الأمد. إلّا أنّ السلوك الإسرائيلي في هذه الحرب خالف كلّ الحسابات والسمات المعروفة عنها في حروبها واحتلالاتها السابقة، حيث أنتجت عملية “طوفان الأقصى” شعوراً بالخوف من “الزوال” أطاح بكلّ المخاوف الإسرائيلية دفعة واحدة، وباتت إسرائيل، شعباً وقيادةً، تنظر إلى الخسائر البشرية على أنّها آثار جانبية لا بدّ من احتمالها لتفكيك الخطر الوجودي الذي التفّ حول عنقها، فسارعت إلى تضخيم آثار “طوفان الأقصى” وتوظيفها من أجل الحصول على مظلّة دعم أميركي وغربي واسعة لارتكاب “نكبة ثانية” تجهز فيها على ما لم يتَح لها في النكبة الأولى عام 1948، فطفقت ترتكب عمليات إبادة جماعية، جاعلة من غزة أرضاً محروقة، بالتوازي مع تطبيق خطّة لتفتيت الضفة الغربية، وتحويل الشرعية الفلسطينية إلى نوع من الإدارة المدنية لمناطق مشرذمة تتوسّطها المستوطنات الإسرائيلية. ولولا الموقفان المصري والأردني الحازمان في رفض تهجير الشعب الفلسطيني، لتحوّلت القضية الفلسطينية إلى مسألة ديمغرافية عربية. ومثل غزّة جنوب لبنان، الذي انضمّ في 8 تشرين الأول إلى معركة “إسناد غزّة”، فدفع ثمناً لا يقلّ عن غزّة في أيلول الفائت، ولا يزال، عنوانه “إبادة” قرى جنوب لبنان وبعلبك الهرمل وضاحية بيروت الجنوبية، على الطريقة الغزّيّة.

كانت رهانات حماس، ومن خلفها إيران ومحورها، قائمة على أنّ إسرائيل ليس في وسعها تحمّل الكلفة البشرية المؤلمة لاجتياح غزة، ولا حرب طويلة الأمد

السّقوط الإيرانيّ السّريع… وصعود بزشكيان

مثّلت عملية “طوفان الأقصى” ذروة العصر الإيراني في المنطقة وبدأت بعدها رحلة الانحدار السريع وبلا سقوف. ذلك أنّها كانت المرّة الأولى التي توجع فيها إيران الغرب، وعلى رأسه أميركا التي أطلقت يدها في المنطقة غداة 11 أيلول 2001، ومنحتها فرصة التحوّل إلى لاعب إقليمي لتدمير حواضر العرب وتقويض مفهوم الدولة الوطنية، وأتاحت لأيديولوجيتها الدينية فرصة التمدّد حتى في الغرب على حساب السُّنّة، فصارت مراسم عاشوراء “الإيرانية” طقوساً مألوفة ومسموحة في شوارع العواصم الأوروبية والمدن الأميركية، باعتبار الشيعة لا يشكّلون خطراً وجودياً على الغرب.

كانت إيران أوّل من التقط هذا التحوّل، فأعاد الملالي إنتاج السلطة عبر هندسة معقّدة أوصلت الإصلاحي مسعود بزشكيان إلى رئاسة الجمهورية، وصدّرت عرّابي المفاوضات النووية لإيصال رسائل السلام إلى العالم، فيما جلس الحرس الثوري في المقاعد الخلفية. إلا أنّ ذلك لم يحُل دون دخولها للمرّة الأولى في تاريخها في حرب مباشرة مع إسرائيل لا تزال طهران تحاول التملّص منها وحصرها في إطار الردود المتبادلة المضبوطة.

تدفع إيران اليوم ثمناً باهظاً لأخطائها الاستراتيجية عبر “النكسة” التي أصابت الحزب، درّة تاج محورها الذي خسر في غضون أسبوعين قيادته، ويواجه ضغطاً عسكرياً إسرائيلياً شديداً لتفكيك حاضنته الشعبية عبر التهجير الممنهج.

تدفع إيران اليوم ثمناً باهظاً لأخطائها الاستراتيجية عبر “النكسة” التي أصابت الحزب، درّة تاج محورها الذي خسر في غضون أسبوعين قيادته وهيبته

وبعدما كانت إيران تقوم بتصعيد قوّة جماعات مارقة مثل فصائل الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، وميليشياتها الكثيرة في سوريا، لتحويلها إلى قوى إقليمية فاعلة على نسق الحزب، صارت اليوم مضطرّة إلى التضحية بالأخير للدفاع عن نظام الملالي نفسه. وانخفض سقف الرهانات السياسية إلى حدّ التعويل على تسجيل مقاتلي الحزب في جنوب لبنان بعض الانتصارات الميدانية على الجيش الإسرائيلي، من أجل تحسين أوراقها على طاولة تفاوض لم تنضج بعد.

مع ذلك، لا يمكن لأيّ حرب إلا أن تنتهي بتسوية سياسية. والمنطقة ليست في صدد الدخول في العصر الإسرائيلي، حسبما تروّج الأذرع الإعلامية الإيرانية في محاولة فاشلة لاستقطاب العرب والمسلمين، الذين تربّوا دينياً واجتماعياً على فكرة العداء لإسرائيل. فمهما بلغت طموحات رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو جنونه، فثمّة قناعة أميركية وغربية باستحالة إنجاز ترتيبات اليوم التالي في غزة من دون العرب السنّة.

ضابط إيقاع المنطقة

أثبتت عملية “طوفان الأقصى”، وما تلاها على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، أنّ إيران نفسها بحاجة إلى السُّنّة العرب، حيث عملت على تقديم الإخوان المسلمين من أجل استقطاب الشارع العربي السنّي وتوظيفه لزيادة الضغط على الدول العربية، إلا أنّ هذه السياسة أتت بنتائج عكسية، إذ ارتفعت حدّة الاستقطاب السلبي على حساب غزة نفسها.

عملت طهران على إقامة حزام إسلامي “ممانع” حول السعودية، عبر الحوثيين في اليمن. وجرت محاولات جدّيّة لتأسيس فرع لحماس في العراق

لقد عملت طهران على إقامة حزام إسلامي “ممانع” حول السعودية، عبر الحوثيين في اليمن. وجرت محاولات جدّيّة لتأسيس فرع لحماس في العراق. وهناك المساعي الدائمة لتعويم نموذج حماس الإخواني في الأردن. لكنّ الرياض كانت في هذه الأثناء تقود بهدوء عملية إنضاج مسار سياسي – دبلوماسي جدّي وعاقل ومثمر، مدعوم عربياً وإسلامياً، ومقبول دولياً، يضغط ويسوّق لتطبيق حلّ الدولتين.

هذا ما أدّى إلى ارتفاع عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية، بينما كانت شرعية حماس الدولية تنهار، بدءاً من القمّة العربية والإسلامية الاستثنائية في جدّة، التي انتزعت من إيران موافقتها وتوقيعها على قبول حلّ الدولتين، وضمّت تركيا إلى المجموعة العربية التي عملت على دعم عملية الوساطة، مروراً بمراكمة الجهود الدبلوماسية على الصعيد الدولي، وصولاً إلى إطلاق “التحالف الدولي من أجل حلّ الدولتين” الذي يضمّ 149 دولة اعترفت بدولة فلسطين.

هذا التحالف توّجه موقف وليّ عهد السعودية ورئيس حكومتها الأمير محمد بن سلمان برفض إقامة علاقات مع إسرائيل قبل تحقيق شرط الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلّة. وهو ما يعبّر عن الجهد الدبلوماسي الذي راكمته السعودية والمجموعة العربية، اللتان تواصلان العمل على ترويجه دولياً من خلال توظيف مختلف الأدوات الناعمة من مقالات وحوارات إعلامية تخاطب الرأي العامّ العالمي وصنّاع القرار في آن واحد، بغية إخراج القضية الفلسطينية والمنطقة برمّتها من دائرة الاستثمار الإيراني والأوهام الإسرائيلية.

للدلالة على مدى أهمّية الترويج الإعلامي، تكفي الإشارة إلى تحوّل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في وقت من الأوقات إلى ناشط على منصّات التواصل

للدلالة على مدى أهمّية الترويج الإعلامي، تكفي الإشارة إلى تحوّل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في وقت من الأوقات إلى ناشط على منصّات التواصل، يتولّى الردّ بنفسه على كلّ موقف يعبّر عن تضامن الحدّ الأدنى مع أهل غزة، إضافة إلى حادثة مجدل شمس وكيفية توظيفها لمحاولة نتنياهو تظهير نفسه مدافعاً عن عرب الجولان.

في الوقت نفسه، تنتهج السعودية، التي تنطلق من قناعة راسخة بأنّه لا يمكن تغيير التوازنات في المنطقة وإنتاج نظام إقليمي جديد من دون العرب، نهجاً يقوم على توسيع دائرة التعاون والشراكات، بما يحول دون إقصاء أيّ طرف. وهذا ما دفعها إلى استيعاب الاندفاعة الإيرانية نحو مصالحتها من أجل منحها مقعداً على طاولة الشراكة، حيث تسهم المصالح الاقتصادية المتشابكة في الحدّ من قدرة إيران على التغريد خارج السرب.

إقرأ أيضاً: يتغيّر اللّاعبون ويبقى الشّرق الأوسط نفسه

هذا بالإضافة إلى توسيع دائرة التعاون مع القوى الدولية المؤثّرة، بما يخدم استقرار المنطقة ويضمن مصالح جميع اللاعبين. بيد أنّ الخروج من عصر “الأيديولوجية” الإيرانية الذي استمرّ قرابة عقدين، وعودة العرب السُّنّة كفاعل إقليمي محوري،  يفرضان الكثير من التحدّيات على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، وخصوصاً في لبنان الذي يفتقر إلى قوّة سياسية سنّية يمكن التعويل عليها في إعادة تكوين السلطة من أجل مواكبة التحوّلات في المنطقة، وعلى صعيد التطوّرات في سوريا، فيما العراق يسلك طريقه نحو حكم أكثر توازناً منذ سنوات.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…