لا ينقص الدولة الإقليمية الكبرى “إيران” معرفة قدراتها الفعلية وقدرات خصومها، ووفق ذلك تضع أولويّاتها وحدود حركتها.
تعرف إيران قدرات أذرعها وحلفائها، حيث المواجهة التي عمرها سنة لا تقتصر على إسرائيل وما لديها من إمكانات، ولا حتى أميركا، بل تقف أهمّ دول الناتو معهما، وهذا ما حدث بالفعل حين اضطرّت إيران إلى المواجهة المباشرة ولو على مستوىً محدود.
مثلما تدرك إيران ذلك تدرك إسرائيل بحساباتٍ دقيقة أنّها لن تقوم بأيّ عمل مباشر ضدّ إيران إلا إذا كانت أميركا موافقة عليه، وفق ميزان أنّ العمليات المحدودة خارج نطاق الأهداف الاستراتيجية تحتاج فقط إلى ضوء أخضر، وأمّا الكبرى كالمنشآت النووية فلا مناص من مشاركة أميركية مباشرة.
لا ينقص الدولة الإقليمية الكبرى “إيران” معرفة قدراتها الفعلية وقدرات خصومها، ووفق ذلك تضع أولويّاتها وحدود حركتها.
إيران تناور
ما تزال إيران تناور للإفلات من الحرب التي تريدها إسرائيل، وما تزال أميركا تتحفّظ عليها، وإذا ما ظلّت الأمور ضمن هذا السياق فبوسعنا اعتبار أنّ الدولة الإيرانية نجحت ولو بجراح معنوية أصابتها من النأي بنفسها عن حرب جذرية تريدها إسرائيل وتعتقد أنّها تقترب منها.
ليست إيران الدولة منعدمة الخيارات البديلة عن الجهد العسكري الذي يُنتظر منها، وإذا كان مصطلح الصبر الاستراتيجي أعفاها من القيام بردود عسكرية واسعة على كلّ ما تعرّضت له من استفزازات وتحرّشات إسرائيلية، فإنّ خياراً آخر يبدو أنّها وضعت خطواتها الأولى عليه، وعنوانه الأبرز الرئيس بزشكيان الذي تولّى مهمّته الصعبة في ظرفٍ تتهدّد فيه الدولة تحدّيات ربّما تصل حدّ أن تكون وجودية.
الخصم الأميركي، الذي هو بالنسبة للمعتدلين وفي مقدَّمهم رئيس الدولة ومن معه، يجسّد مشروع حوار ومصالحة وحتى مقايضة. هذا الخصم يمرّ الآن بمرحلة حرجة وملتبسة، بين إدارة ديمقراطية تبدو حذرة وأقرب إلى الممانعة لتوجيه ضربة قاصمة استراتيجية لإيران، وبين إدارة جمهورية تقف على أبواب البيت الأبيض تدعو جهاراً نهاراً إلى ضربة جذرية أهمّها المشروع النووي.
هذه حالة ينبغي أن يُنظر إليها في إيران بجدّيةٍ عالية ما دام احتمال سيطرة الجمهوريين على القرار الأميركي لا يحتاج من الوقت سوى أسابيع قليلة.
منذ لقاء بكين الذي يستحقّ أن يوصف بالتاريخي الذي خفّض كثيراً من التوتّر العالي بين السعودية وإيران، وأظهر حاجة الدولتين الكبيرتين إلى بلوغ “صفر مشاكل” بينهما
لقاء بكين التّاريخيّ
منذ لقاء بكين الذي يستحقّ أن يوصف بالتاريخي الذي خفّض كثيراً من التوتّر العالي بين السعودية وإيران، وأظهر حاجة الدولتين الكبيرتين إلى بلوغ “صفر مشاكل” بينهما، وإلى اللقاءات التي تلته وآخرها لقاء بزشكيان بوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في الدوحة، يبدو أنّ مسيرة الاعتدال الإيراني، وخصوصاً في مجال العلاقات مع الجوار، ما تزال تعمل، وهذا يسجّل كنقطة إيجابية ثمينة لمصلحة الطرفين وللتأثير إيجابياً على الصورة الإيرانية أمام العالم، وخصوصاً لدى من يحتاجون إلى اعتدالها في أوروبا وأميركا.
غير أنّ الحذر الإيراني ينبغي أن يظلّ قائماً ما دام نتنياهو يعتنق فكرة أضحت بمستوى المبدأ الثابت، وهي جرّ أميركا وحتى الناتو إلى حرب جذرية مع إيران لن تتوقّف عند المنشآت الاستراتيجية، ومن ضمنها النووية، بل تمتدّ إلى ما هو أكثر جذرية بما في ذلك التطلّع لتغيير النظام.
ليس كلّ ما يريده نتنياهو يمكن أن يتحقّق، حتى لو جرّ أميركا والناتو إلى أجنداته المجنونة، لكنّ الذي يوجب الحذر والتحوّط هو أنّ مجرّد المحاولة في هذا الاتّجاه ستنتج دماراً يكون دمار غزة ولبنان صورةً مصغّرةً عنه.
إقرأ أيضاً: غابت الأسطورة… “الإطار” باقٍ!!
إيران الدولة والنظام والرئيس ليس مطلوباً منها رفع رايةٍ بيضاء أمام خطرٍ محدق، وهي لن تفعل ذلك ويجب أن لا تفعل مهما كان الثمن، غير أنّ الممكن هو سحب البساط من تحت أقدام نتنياهو بتطوير اعتدال الدولة الإيرانية، وخصوصاً في علاقاتها مع الجوار، وهذا ما أفاد به الرئيس الجديد صراحةً، ولا يوجد ما يمنع من أن يكون قراراً إيرانياً جماعياً تتّخذه الدولة كلّها.