التّصالُح مع “السيّد”… بعد رحيله

مدة القراءة 9 د

كثيرون تصالحوا مع الأمين العام للحزب بعد رحيله. تماماً كما تصالح نصف اللبنانيين مع رفيق الحريري في 14 شباط 2005… هنا محاولة لفهم أسباب هذه “الصُّلحَة”، من التاريخ والجغرافيا، إلى ظروف الرحيل وأسبابه.

 

لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان هناك مئات آلاف اللبنانيين يعتبرونه خصماً، أو عدوّاً. لكن يمكن اختزال فِرَق كثيرة إلى 4 أطراف رئيسية هم:

1- المعارضة: فريق لا يصدّق أنّه يواجه النظام الأمني اللبناني السوري. بل يتّهمه أنّه “يتزاعل” مع “السوريين” فقط، وأنّه لم يحسم قراره بعد بالمعارضة.

2- المسيحيون: كانت معظم النخبة المسيحية تعاديه باعتباره يريد “أسلمة” البلد، وباعتباره “حليف سوريا”.

3- اليسار: كان معظم اليسار يعاديه من موقع “طبقيّ”، باعتباره يمثّل الرأسمالية والطغمة الماليّة.

4- أتباع سوريا: وبالطبع أتباع النظام السوري، من أحزاب الممانعة وأزلام المخابرات، صحافيين وسياسيين ومواطنين… كانوا يعادونه لأسباب كثيرة، متداخلة ومختلفة، لكنّها تصبّ في كراهيته جملةً وتفصيلاً.

المصالحة التّاريخيّة

في 14 شباط 2005، الساعة الثانية ظهراً، بعدما تأكّد “أنّهم قتلوه”، 3 من هذه الأطياف تصالحت معه. حتّى قبل وصول الجثّة إلى برّاد المستشفى.

1- ندم المعارضون، باعتبار أنّه ذهب في عداوة النظام السوري إلى حدّ القتل اغتيالاً. وهم الآمنون في بيوتهم، كانوا يتشكّكون في مصداقية مواجهته لهذا النظام الهائل السيطرة والقوّة في لبنان يومها. حتّى إنّ معظم الذين شاركوا في صياغة بيان قريطم ليلة 14 شباط 2005، كانوا إمّا من خصوم البيت، أو من الذين ما زاروه إطلاقاً، بل كانوا يقاطعونه.

2- اكتشف المسيحيون أنّ الزعيم السنّي كان في “خندق واحد” معهم. لكن على طريقته، ومن وجهة نظره، وبحدود المُتاح له. هو الذي يرأس الحكومة ويحمل مشروعاً اقتصادياً وسياسياً يستدعي التواصل والبقاء على علاقة طيّبة مع “الاحتلال السوري”.

موته، بكلّ ظروفه، سيعيد التذكير بأنّ هذه البلاد لا تتحمّل أبطالاً من وزن رفيق الحريري أو نصرالله، تماماً كما لم تتحمّل بشير وكمال جنبلاط وياسر عرفات

3- طيف كبير من اليساريين أعاد النظر، وخلص إلى أنّ التحالف السياسي مع الحريرية الوطنية ضرورة لتحرير لبنان من “الاحتلال السوري”، وأنّ “السياسة” تتقدّم على “الصراع الطبقي” في لحظة “التحرير”. وذهب هؤلاء إلى المشاركة في “ثورة 14 آذار” بوجه النظام السوري – اللبناني. معظمهم أسّس “حركة اليسار الديمقراطي” وكان خلفهم جورج حاوي وسمير قصير والياس عطاالله.

إلى اليوم، ظلّ المسيحيون على خلافات متقطّعة مع الحريرية السياسية، وصولاً إلى “اعتكافها” أو “انتهائها” مع رحيل سعد الحريري عن بيروت وإقامته في الإمارات. وعاد اليساريون إلى قواعدهم سالمين بوجه “المصارف”، وربّما بوجه “المنظومة” في تيارات “17 تشرين”. وتفرّق المعارضون، لكنّهم ظلّوا على لازمة تتكرّر، وهي أنّ “الرئيس رفيق الحريري شهيد لبنان”.

المُقارنة الصّعبة… والحقيقيّة

قد يقول البعض إنّه لا تجوز المقارنة بين رئيس حكومة مدني ومُسالم جاء ليعيد إعمار لبنان، وبين زعيم حزب عسكري شارك في القتال من جنوب لبنان مروراً ببيروت والجبل في 7 أيّار، وليس انتهاءً بسنوات التيه السوري… وصولاً إلى العراق واليمن، ومحاولاتٍ في الكويت والمملكة العربية السعودية والبحرين، حتّى مشارف أميركا الجنوبية وأوروبا…

السيّد

رغم امتلاء اللحظة بأسباب المقارنة. ليس أوّلها أنّ كثيرين من خصوم الأمين العام للحزب أصابهم شيءٌ من الحزن، أو الصدمة، بعد تلقّي خبر اغتياله، أو على الأقلّ لم يشعروا بفرحة أو غبطة.

هذا لأنّ “السيّد” لا يمكن اختزاله في مرحلة واحدة من مراحل “الخلاف” معه. بل يمكن تقسيم العلاقة بينه وبين اللبنانيين والعرب إلى 7 أسباب تدفع إلى محبّته أو كراهيته:

1- هو الزعيم الذي شارك في، وقاد، عملية تحرير جنوب لبنان في عام 2000. قبلها قدّم نجله هادي شهيداً، إلى جانب المئات من أبناء حزبه. ومن هذا التحرير، بدأت محبّته تصل إلى قلوب العرب.

2- بعدها أدخل لبنان في حرب تموز 2006 لأسباب اختلف حولها اللبنانيون. لكنّه خرج منها أقوى، ومعه المزيد من الشرعية القتالية بوجه العدوّ الإسرائيلي.

رحل الأمين العام للحزب في قلب المعركة التي لطالما أخبرنا أنّه نذر نفسه وحزبه من أجلها، “على طريق القدس”

3- ثمّ بعد سنتين فقط، عادى نصف اللبنانيين في 7 أيّار 2008 باجتياح مقاتليه بيروت وبعض جبل لبنان، قبل أن ينسحبوا منها ومعهم “الثلث الشيعي المعطّل” في الحكومة، أي “حقّ الفيتو” في السلطة والنظام.

4- في 2011 ذهب إلى سوريا، فأغضب “السنّة” في المنطقة. قال إنّه يريد “حماية خطوط إمداد المقاومة”. لكنّه أخمد ثورة شعب مظلوم وساهم في تحويلها إلى فوضى مذهبية، بسبب تدخّله “الشيعي” بوجه أكثرية سنّيّة.

5- في 2015 أغضب دول الخليج، حين ثبت دوره في اليمن، الذي حاول أن يطعن المملكة العربية السعودية في خاصرتها الحدودية.

6- في 2019 شارك في قمع ثورة 17 تشرين اللبنانية.

قوّة مشهد النّهاية

السبب السابع هو الأهمّ. وهو “طريقة استشهاده”: الزمان. المكان. أداة الجريمة. المنفّذ. الدافع. الهدف. النتيجة.

الزمان: في 2024 استشهد “السيّد”.

– المكان: في “عرينه”. في قلب ضاحية بيروت الجنوبية. في حارة حريك تحديداً، عاصمة حزبه، شعبياً وسياسياً وأمنيّاً.

أداة الجريمة: وصلت إليه التكنولوجيا الأميركية، محمولةً على متن طائرات أميركية الصنع.

– المنفّذ: يقود الطائرات الأميركية ضبّاط إسرائيليون. من هؤلاء الذين يحتلّون فلسطين، وشاركوا في إبادة غزّة وقتل 42 ألفاً من أهلها، وجرح 100 ألفٍ منهم.

الدافع: مشاركته في معركة إسناد غزّة، ونصرته فلسطين وأهل غزّة المتروكين من العالم كلّه، منذ 8 تشرين الأوّل، بعد ساعات على انطلاق “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر.

– الهدف: “القضاء” على الحزب، وإبعاده من جنوب لبنان في منتصف معركة “إسناد لغزّة” قادها من لبنان طوال عام كامل. وكان في باله أنّها بوّابة “مصالحته”، هو وإيران من خلفه، مع السُّنّة، لبنانيين وعرباً. هؤلاء الذين عاداهم في 7 أيّار، وواجههم في سوريا، وأغضبهم في اليمن. وفي باله أنّه يستعيد صورته كـ”مقاتل ضدّ إسرائيل”، بعد سنوات “القتال ضدّ العرب”. وهذا ليس تفصيلاً في مشهد نهايته الجسدية.

في عامه الأخير، الوحيد الذي سلكه “على طريق القدس”، حاول “السيّد” أن يتصالح مع سنّة لبنان. وبعضهم ابتسموا له، حين ناصر غزّة

– النتيجة: رحل الأمين العام للحزب في قلب المعركة التي لطالما أخبرنا أنّه نذر نفسه وحزبه من أجلها، “على طريق القدس”. تلك المعركة التي قال لنا إنّه من أجلها ذهب إلى الشام وحمص وحلب وبغداد وصنعاء، وحاول الذهاب إلى عواصم أخرى ظلّت عصيّة عليه وعلى إيران من خلفه.

هل تمّت المصالحة؟

بعض العراق كان حزيناً لموته. وأعلن أنصار الله في اليمن أنّهم سيثأرون لدمه. إيران هاجمت إسرائيل بـ200 صاروخ بالستي ثأراً له. ظلّت سوريا على الحياد. لكن ربّما كانت تقوم بدورها كـ”خطّ إمداد”.

ماذا عن لبنان؟ وماذا عن عواطف سنّته؟ وماذا عن مشاعر الجمهور العربي؟

في عامه الأخير، الوحيد الذي سلكه “على طريق القدس”، حاول “السيّد” أن يتصالح مع سنّة لبنان. وبعضهم ابتسموا له، حين ناصر غزّة. كانت مشاعرهم مرتبكة، حيال المتّهم باغتيال رئيسهم رفيق الحريري، الذي يقاتل دفاعاً عن “سُنّة غزّة”. ولم يكن سهلاً الخروج بمعادلة منطقية. ونحن العرب شعوب عاطفية أوّلاً، قبل المنطق.

ثمّة من قال إنّ بعض العرب، مستندين إلى مصالحة الصين بين إيران والسعودية، لم يزعجهم أن يقاتل في جنوب لبنان، بعدما كان حزبه يريد الاعتداء على عواصمهم. حتى إنّ دول الخليج رفضت المشاركة في التحالف الذي قصف اليمن خلال الأشهر الماضية.

تماماً كما “ماتت” العداوة بين عدد كبير من اللبنانيين، اتجاه رفيق الحريري، بدا أنّ رحيل “السيّد” رحّل معه عداوات كثيرين. برز هذا على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى ألسنة ناشطين وسياسيين كانوا يناصبونه الخصام، بل والعداء.

أهمّيّة اللحظات الأخيرة…

لو استشهد نصرالله في سوريا، كما عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، أو في مركز سرّيّ للحزب في بيروت أو كسروان على سبيل المثال.. ولو فخّخ له سيّارةً أو موكباً عملاء لإسرائيل على طريقه بين سوريا وإيران، لَفقدَت شهادته “القيمة التاريخية” نفسها التي حصلت عليها في حارة حريك.

تماماً كما “ماتت” العداوة بين عدد كبير من اللبنانيين، اتجاه رفيق الحريري، بدا أنّ رحيل “السيّد” رحّل معه عداوات كثيرين

لكنّه كان في قلب عرينه، خلال المعركة، حتّى اللحظة الأخيرة. تماماً كما استشهد رفيق الحريري في قلب عرينه، على بعد مئات أمتار من وسط بيروت.

الاثنان كانا عنيدَيْن. لم يستمعا إلى التحذيرات. رفضا “ترك لبنان”. أصرّا على أنّهما “أكبر من الاغتيال”. رفضا الخروج من ساحة المعركة. وبقيا يقاتلان من أجل ما يؤمنان به، على اختلافه واختلافهما، حتّى اللحظة الأخيرة.

الأوّل كان مع جنرالاته، والثاني كان بين النواب والصحافيين قبل دقائق من رحيله. ولهذا يتشابهان في المسار والمصير. وسيحظَيَان دائماً باحترام الخصوم والأعداء قبل الحلفاء والمحبّين والمناصرين.

لو استشهد خلال المعركة اليمنية، أو خلال معارك سوريا، أو لو قتله أيّ أحد غير الإسرائيليين الذين تأسّس حزبه لمواجهتهم، أو لو تغيّر “الدافع” أو “المكان” أو “الزمان” أو “الأداة”، أو أيّ من “ظروف الجريمة”، لاختلف الكثير… لكنّه رحل كما كان يتمنّى.

بعض العداوات تسقط بالموت، خصوصاً تلك التي تكون بين أبناء البيت الواحد، أو العائلة الواحدة، أو الوطن الواحد. على سبيل المثال، بعض المسلمين، حريريين وشيعة وإسلاميين، باتوا يعتبرون بشير الجميّل “شهيد لبنان”… على الرغم من أنّ بشير قاتل وقتل مسلمين. ومسيحيون وافقوا بعد 14 آذار على أنّ كمال جنبلاط “شهيد لبنان” على الرغم من أنّ مسيحيين كثيرين قُتلوا انتقاماً لمقتله. واللائحة تطول.

إقرأ أيضاً: ماتوا… ممنوعين من الاعتراض

“السيّد” حسن سيكون “شهيداً” على المنوال نفسه. كثيرون يعتبرون أنّه أخطأ، وارتكب خطايا، من لبنان إلى دنيا العرب. لكنّ موته، بكلّ ظروفه، سيعيد التذكير بأنّ هذه البلاد لا تتحمّل أبطالاً من وزن رفيق الحريري أو نصرالله، تماماً كما لم تتحمّل بشير وكمال جنبلاط وياسر عرفات… وبأنّها لا تقبلهم إلا “شهداء”. يبقى عليهم اختيار “الطريق” من بيروت إلى القدس… إلى آخره.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mdbarakat

مواضيع ذات صلة

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…

مآلات الحرب على كلّ جبهاتها: سقوط المحور

لم تنتهِ بعد حرب الشرق الأوسط المتعدّدة الساحات والتسميات.. طوفان الأقصى والسيوف الحديدية والإسناد إلخ…. لذا لن تكون قراءة النتائج التي أسفرت عنها نهائية حاسمة،…