اختارت أنقرة لنفسها مساراً إقليمياً جديداً في العامين الأخيرين انطلاقاً من دبلوماسية التهدئة ومراجعة المواقف والسياسات حيال العديد من العواصم والملفّات. انفجار الوضع في قطاع غزة في مطلع تشرين الأول المنصرم وانتقاله إلى أكثر من مكان، أطاح بالكثير من حساباتها والتوازنات الجديدة التي كانت تبحث عنها، خصوصاً في العلاقة مع إسرائيل التي كادت أن تشهد مساراً جديداً بعد مصافحة إردوغان – نتنياهو في أيلول العام المنصرم في نيويورك.
ماذا بعد ضرب المشروع الإيراني في الإقليم الذي أعلنت واشنطن وتل ابيب أنّه قدر طهران بعد الآن؟ وما هي الخطوة اللاحقة بالنسبة لواشنطن وتل أبيب؟ وبأيّ اتجاه سيتقدّم المخطّط الأميركي الإسرائيلي في المنطقة؟ وكيف ستتصرّف أنقرة حيال اندلاع معارك التطويق والتطويق الإقليمي المضادّ؟ هناك الكثير الذي يقلق تركيا حيال إسرائيل ونتنياهو وما يعدّ له في الإقليم وإلّا لما صدرت هذه التصريحات وتقديرات الموقف التصعيدية التركية في الساعات الأخيرة:
1 – الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يؤكّد أنّه “لا يمكن للمجتمع الدولي أن يظلّ صامتاً إزاء العربدة الإسرائيلية التي تدفع المنطقة برمّتها إلى النار. الوقوف مع فلسطين ولبنان اليوم يعني الوقوف مع الإنسانية والسلام وثقافة العيش المشترك بين مختلف المعتقدات. حفنة من الصهاينة المتطرّفين أعمتهم الكراهية يزجّون بمنطقتنا والعالم أجمع في النار، ولن نقبل أبداً بهذا الظلم وهذه الهمجية. التوصية باستخدام القوّة كما ورد في قرار الأمم المتحدة الصادر عن الجمعية العامة عام 1950 لا بدّ أن تدخل حيّز التنفيذ بسرعة من قبل مجلس الأمن الدولي.
2- رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش يوجز في طريق عودته من زيارة لموسكو المشهد كما يراه هو: “وصلت إسرائيل إلى المرحلة الأخيرة في خطّة تحريك مشروعها القديم الهادف لتوسيع رقعة حدودها من الفرات إلى النيل. تركيا بين الأهداف الإسرائيلية أيضاً… نتنياهو وعصابته يرون المشهد على النحو التالي: “نحن من عليهم أن يكونوا عبيداً عندنا في الشرق الأوسط”.
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يؤكّد أنّه “لا يمكن للمجتمع الدولي أن يظلّ صامتاً إزاء العربدة الإسرائيلية التي تدفع المنطقة برمّتها إلى النار
3- التصفيق وقوفاً على الأقدام 48 مرّة لنتنياهو تحت سقف الكونغرس قبل أسابيع لم يكن بالمجّان. وانسحاب عشرات الدبلوماسيين من قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة عند شروع نتنياهو في إلقاء كلمته لا قيمة كبيرة له بأعين واشنطن وتل أبيب.
4- ما عجزت واشنطن عن تحقيقه وإهدائه لتل أبيب لبنانياً في أيار 1983 تريد إنجازه هذه المرّة لكن بطريقة إقليمية أوسع متدرّجة ومبرمجة: اتفاقيات سلام إسرائيلية مع لبنان ثمّ سوريا ثمّ إيران والوصول إلى الحدود التركية.
الأسد بين نتنياهو وإردوغان..
5- هناك تصعيد إسرائيلي لامتناه في مواجهة وهن إقليمي ودولي لامتناهٍ. وهناك رسائل أميركية مواكبة تقول إنّ واشنطن تواصل حشدها العسكري في المنطقة تحسّباً لأيّ طارىء إقليمي قد يحدث.
6- تستفيد أميركا وإسرائيل من الأوضاع الاقتصادية الصعبة للعديد من دول المنطقة التي تحول دون التصعيد السياسي والعسكري. تل أبيب لا بدّ أن تتصدّر طاولة تقاسم النفوذ وثروات المنطقة من غاز وأنهار وبحار ومضائق وممرّات تجارية.
7- تعيش أنقرة لحظة خيبة أمل في الرهان على ضغط أميركي يهدف لمنع مواصلة التصعيد والتوتير الإقليميّين اللذين يطالان سياساتها وعلاقاتها ومصالحها في المنطقة. يستهدف نتنياهو علاقات تركيا مع أكثر من لاعب إقليمي من خلال استهداف منظومة العلاقات التي بنتها مع هذه الأطراف.
8- هدف الحراك الإسرائيلي هو فتح الطريق أمام مشروع الشرق الأوسط الأميركي الكبير القائم على تغيير الخرائط ورسم الحدود الجديدة للمنطقة. إسرائيل الكبرى وكردستان الكبرى والتمدّد باتّجاه الحدود الجنوبية لتركيا وانتظار اللحظة المناسبة لمواصلة المخطّط.
9- رسالة أنقرة لبشار الأسد اليوم موجزة ومحدّدة: خيارات الرهان على إيران تزداد صعوبة. أمامك خياران: إمّا التفاهم مع نتنياهو أو الإمساك باليد التركية التي ما زالت ممدودة.
رسالة أنقرة لبشار الأسد اليوم موجزة ومحدّدة: خيارات الرهان على إيران تزداد صعوبة
متى ستتدخل واشنطن؟
أوجز المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي قبل أيام أولويات واشنطن الاستراتيجية في الإقليم بقوله: “لقد قمنا بنشر بعض القوات الإضافية في المنطقة. لدينا الآن قدرة عسكرية أكبر في الشرق الأوسط مقارنة بما كان لدينا في نيسان. لذا هناك بالفعل قدرة عسكرية قويّة للغاية للدفاع عن أنفسنا والمساعدة في الدفاع عن إسرائيل إذا لزم الأمر”. نتنياهو هو في وضع الهجوم على أكثر من جبهة، فكيف ومتى ستتدخّل واشنطن للدفاع عنه؟
هل تهاجم تل أبيب العاصمة السورية دمشق وتحاول استهداف القصر الجمهوري وبشار الأسد حليف إيران والحزب؟ بمقدورها طبعاً أن تفعل ذلك ما دام النظام منحها أكثر من ذريعة، لكنّها لن تفعل ذلك بالمجّان. ما هي الخدمة التي تنتظرها بالمقابل من الذين تهمّهم إزاحة الأسد؟ أم تفعل ذلك لتسهيل تفعيل مشروع الشرق الأوسط الأميركي الجديد؟ كيف تتصرّف أنقرة أمام هذه السيناريوهات؟
ستنقل إسرائيل جزءاً من حربها إلى جبهات إقليمية جديدة تعني تركيا أيضاً، فبنيامين نتنياهو يقول إنّ المعركة مستمرّة مع كلّ من يعادي تل أبيب ويهدّد مصالحها. تصريحات ومواقف القيادات السياسية التركية والردود الإسرائيلية عليها تضع أنقرة ضمن هذه الحسابات والرسائل الإسرائيلية حتى لو كان الحاجز الأميركي بين الطرفين يحول دون ذلك حتى الآن.
قال الرئيس الأميركي جو بايدن وهو يعقّب على عملية استهداف الأمين العام للحزب حسن نصرالله إنّ “الولايات المتحدة تدعم بشكل كامل حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضدّ الحزب وحماس والحوثيين وأيّ جماعات إرهابية أخرى مدعومة من إيران”.
لم تعد واشنطن تسأل حليفها التركي عمّا يقلقه ويزعجه ولم يعد يهمّها تقديم تطمينات لأنقرة حول عدم خروج اللاعب الإسرائيلي عن حدود اللعبة التي رسمتها واشنطن له في المنطقة. العكس قد يكون هو الصحيح، فالإدارة الأميركية قد تكون هي التي تشجّع نتنياهو وتفتح الطريق أمامه لمواصلة سياسة التصعيد والتحدّي في الإقليم.
اختارت أنقرة لنفسها مساراً إقليمياً جديداً في العامين الأخيرين انطلاقاً من دبلوماسية التهدئة ومراجعة المواقف والسياسات
ينتقد الإعلامي التركي إسماعيل كيليتش أصلان في زاويته بصحيفة “يني شفق” الإسلامية أصحاب العمى الفكري الذين يحسبون أنّ قضية فلسطين والحرب المزعومة لإسرائيل لن تمسّا تركيا بأيّ شكل من الأشكال. “لم يأخذ هؤلاء الحمقى بتحذيراتنا على محمل الجدّ عندما قلنا لهم إنّ إسرائيل هي عبارة عن مستشفى للأمراض العقلية، يسكنها مختلّون عقلياً يريدون إشعال حرب يوم القيامة، ردّوا علينا بالقول “لا تصدّقوا هذا الكلام”…
إقرأ أيضاً: هل دقّت ساعة القيامة الإقليميّة؟
دعوني أُضِف شيئاً آخر، الدولة الكردية التي تحاول إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة إقامتها في شمال سوريا كـ”إسرائيل الصغيرة” تُجهّز لتكون مباشرة على الحدود مع تركيا”.
لمتابعة الكاتب على X: