الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

مدة القراءة 6 د

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من ملامح لا يعرفها الناس عنه، ومحاولة لرسم الخطوط العريضة التي يحتاج إليها الشيعة في “خليفته”. أهمّها احترام الرأي الآخر، والانخراط في مشروع الدولة.

 

الحزب في لبنان قد وقف منذ تأسيسه عام 1982 حتى استشهاد أمينه العامّ بين خيارين، أحدهما أن يكون تنظيماً جهاديّاً يتعاطى الشأن السياسي، والآخر أن يكون تنظيماً سياسياً يتعاطى الشأن الجهادي. ولم يفرّط بأيّ منهما، إذ كان كليهما، فمرّة يكون هذا، ومرّة يكون ذاك.

حتى بعد اختيار السيد نصرالله للأمانة العامة للحزب عام 1992، بعد استشهاد سلفه السيد عباس الموسوي، كان الحزب يمسك بالخيارين معاً. فهو بكلّ وضوح حركة مقاومة تريد أن تجد لمشروعها مكاناً في منظومة دولة تحتلّ إسرائيل جزءاً من أراضيها، التي حرّر الحزب نفسه بعضها عام 2000، واستمرّ الحزب ممسكاً بالخيارين حتى عام 2006، حين شنّت إسرائيل عدواناً على لبنان، فتصدّى لها الحزب، كاشفاً عن قدرات قتالية كبيرة. وهو ما رسم ملامح مرحلة جديدة فرضت ظروفها الأمنيّة على السيد نصرالله عدم الظهور. فكان لا يطلّ على الناس عموماً وجمهوره بالخصوص، إلا من خلال شاشة، باستثناء مرّات قليلة جدّاً.

لقد اعتاد جمهوره على هذا النوع من الظهور، الذي أضفى على شخصيّته شيئاً من الأسطوريّة. وهو ما نحا بالحزب منحى ضخماً، إذ بات تنظيماً جهادياً يتعاطى الشأن السياسي على حساب كونه تنظيماً سياسياً يتعاطى الشأن الجهادي. ربّما لم تكن هذه إرادة السيد نصرالله نفسه، الذي جمع بين استقرار العقيدة وقلق السياسة.

استمرّ الحزب ممسكاً بالخيارين حتى عام 2006، حين شنّت إسرائيل عدواناً على لبنان، فتصدّى لها الحزب، كاشفاً عن قدرات قتالية كبيرة

“المسافة” الخاصّة بينه وبين النّاس

كنت قد التقيته مرّتين، إحداهما خاصّة في مكتبه بالضاحية. كان دمث الخلق، مهذّباً ودوداً، ذا حضور وجاذبية، وباصطلاح المعاصرين لديه كاريزما خاصّة يشعر بها من يجالسه عن قرب. وأجزم أنّها ليست إرادته لأنّني لمست فيه واقعية الإسلام. لم تجد عند لقائك إيّاه مسافة بينك وبينه، كما اعتادت المؤسّسة الدينية على وجود هذه المسافة بين العلماء الدينيين وبين عامّة الناس، بل وبين القادة المقاومين وغيرهم من الناس. فلنصرالله ريادة في إبراز ملامح القائد المقاوم. فهو في هذا السياق عصاميّ، أمسك زمام الريادة بلا مقوّمات مادّية تذكر، لكن بمقوّمات معنوية عظيمة. فمثلاً قاسم سليماني، اسم ذو رمزية في المقاومة، لكنّ رمزيّته هذه تستفيد من إمكانيات الدولة الإيرانية الهائلة. أمّا نصرالله فرمزيّته لا يسعفها إلا فصيل صغير في دولة لبنان التي لا تقارن بإيران في الإمكانيات، لكنّ بريق رمزيّته عظيم جدّاً.

السيد

إنّ المسافة بين السيّد نصرالله وجمهوره، التي فرضها ظهوره من خلال الشاشة بسبب الظرف الأمني، أدّت إلى تراكم مسكوت عنه، تمثّل في أسئلة كثيرة قد تطرحها أذهان متفرّقة. وهي أسئلة لا تجد إجابات فتأخذ طريقها إلى ذلك المسكوت عنه الذي كلّما عظُمَ غيّبَ وراءه صورة السيّد نصرالله الحقيقية، وأحلّ محلّها صوراً، كلّ شخص يشكّلها بمخيّلته. الملامح التي نجدها في كلّ الصور أنّ “السيد على صواب دائماً”. فإن اختلفت معه فما عليك سوى أن تُنحي باللائمة على نفسك، ثمّ تعيد بوصلتك بالاتّجاه الذي هو عليه. وأجزم أنّ هذا ليس ما كان يريده السيّد نصرالله، الذي يصغي إلى من يكلّمه حتى لكأنّه يتعلّم منه شيئاً. وهذه صفة المحاور الناجح والمفاوض الفذّ. فباستثناء كلمات الترحيب وحفاوة اللقاء هو صامت مصغٍ يستحثّك على مواصلة الكلام.

لقد اعتاد جمهوره على هذا النوع من الظهور، الذي أضفى على شخصيّته شيئاً من الأسطوريّة. وهو ما نحا بالحزب منحى ضخماً

هذه الحال أخفت حقيقة كون الحزب تنظيماً سياسياً يتعاطى الشأن الجهادي، وقدّمته على أنّه تنظيم جهادي يتعاطى الشأن السياسي. وربّما بإخفائها تلك الحقيقة قد أسهمت في تعديل في مشروع الحزب نفسه، الذي لم يُرِدهُ نصرالله إلا مشروعاً سياسياً إسلامياً.

صعوبة خلافته… و”مشيئة الله”

حقّاً أنّني لا أريد أن أخضع إرادة الله لمقولات المنطق، لكنّني أفهم تلك الإرادة الإلهية المتعالية على أنّها حركة في سياق إرادة الحياة. فعندما تكون النوايا حسنة تصدق مقولة “الخير فيما وقع”، بل تنفرض مقولة “الخير ما اختاره الله، وكانت النوايا حسنة إن شاء الله”. فقد مضى نصرالله شهيداً، بل أضفى بشهادته نقاء على حركية إسلامية. لكنّه في الوقت نفسه أغلق الباب على مسكوت عنه تراكم طويلاً، لا لينفتح باب آخر على مسكوت عنه آخر، يرافق من سيخلفه، بل أغلقه ليلغي هذه المفردة في وجه ذلك الخليفة. مثله مثل الحسين عليه السلام، مع الإقرار بفرادة الإمام الحسين وقداسته، التي لم تكن لغيره أبداً. فلا يحقّ لأحد بعد الحسين أن يتكلّم عن المعركة، أيّ معركة كانت، بمفردات الطفّ التي تكلّم بها الحسين يوم عاشوراء. فهي مفردات لا يفكّ رموزها سوى الحسين.

إنّ المسافة بين السيّد نصرالله وجمهوره، التي فرضها ظهوره من خلال الشاشة بسبب الظرف الأمني، أدّت إلى تراكم مسكوت عنه، تمثّل في أسئلة كثيرة

ضرورة صيانة الرأي الآخر

من ثمّ يجب أن يكون خليفة السيّد نصرالله واقعياً يلغي كلّ تعديلات المشروع التي أملتها ظروف أمانة السيّد نصرالله العامة. فنصرالله كان أميناً عامّاً زائداً قيمة مضافة. وسيكون الآتي بعده، بلا شكّ، أميناً عاماً، لكنّه سيخلو من تلك القيمة المضافة، التي ردمت الهوّة بين مشروع الحزب الحقيقي الذي أراده السيّد نصرالله وبين المشروع المعدّل الذي نما في مخيّلة جمهور الحزب.

إقرأ أيضاً: نصرالله والتّاريخ: يومٌ طويلٌ في حياةٍ قصيرة

من ثمّ على خليفة السيد نصرالله أن يعترف على رؤوس الأشهاد بأنّه أمين عام لحزب لا يحتكر الساحة الشيعية، ولا يتفرّد بقرارها السياسي، بكلّ ما تعنيه السياسة من كونها فنّ الممكن الذي لا يتمحّص حقيقة إلا بجدلية الرأي والرأي الآخر المتمحورة حول المنهج النقدي لأنّه حزب يتعاطى بالشأن الجهادي. وذلك لأنّ الساحة الشيعية في لبنان، التي أُثخنت بالجراح وشرقت بكأس الألم، لا تحتمل أكثر من ذلك. كما أنّ الحركية الشيعية يجب أن تستقيم والحراك الوطني لينخرط الشيعة في مشروع الدولة، من دون أن يفكّوا ارتباطهم بمشروعهم الديني.

 

* كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…