غداة الاغتيال المدوّي للأمين العام للحزب ومن قبله وبعده قيادات رفيعة من فريقه، برزت الحكومة اللبنانية إلى الواجهة. الحمل الملقى على عاتقها ثقيل الوطأة وهي التي تعاني من ضعف بنيوي وشرعية مكبّلة. ومع ذلك، فإنّ الكرة اليوم في ملعب الحكومة للمبادرة إلى مواكبة الحراك الدبلوماسي الدولي من أجل التوصّل الى اتفاق لوقف إطلاق النار، بالتوازي مع تكثيف الدبلوماسية المحلّية على عدّة خطوط لتظهير موقف وطني جامع يصبّ في الإطار عينه، ويضغط على الحزب لإقناعه بفكّ التلازم بين الساحتين الغزّية واللبنانية من أجل إنقاذه وإنقاذ لبنان وشعبه من سيناريوهات كارثية ترتسم في الأفق.
يمثّل كلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في ختام اجتماع لجنة الطوارئ الحكومية بالأمس موقفاً ينبغي الارتكاز عليه. فقد أجاب ميقاتي عن سؤال حول المساعي الدبلوماسية بالقول: “لا خيار لنا سوى الخيار الدبلوماسي. منذ بدء الأزمة قلنا بتطبيق القرار 1701.. مهما طالت الحرب فسنعود بالنهاية إلى القرار 1701. فلنوفّر كلّ الدماء وكلّ ما يحصل، ولنذهب إلى تطبيق الاتفاق”.
بيد أنّ رئيس الحكومة يجب ألّا يكتفي بإطلاق النداء من على منبر السراي الحكومي، والركون إلى ما يفضي إليه الحراك الدبلوماسي الدولي والعربي. بل يجب مواكبة هذا الحراك من خلال تفعيل العمل الدبلوماسي واستخدام كلّ الأدوات والعناصر المتاحة لتظهير الموقف الذي يمثّل الدولة اللبنانية.
فشل الحكومة الدّبلوماسيّ
منذ بدء ما يعرف بـ”حرب الإسناد”، غابت الدبلوماسية اللبنانية بشكل شبه كامل على الصعيد الدولي. كما أنّ الخارجية اللبنانية تكاسلت عن السعي لبناء هامش من الاستقلالية عن الحزب وإجراء الاتصالات مع السفراء في بيروت. وارتضت بالزيارات البروتوكولية وتوصيل الرسائل بالاتجاهين. لهذا ننتظر أن يشكل رئيس الحكومة تشكيل خليّة دبلوماسية بالتنسيق مع وزير الخارجية، وتكثيف الاتصالات مع السفارات ذات التأثير في القرار الدولي، بالإضافة إلى زيادة إعطاء التعليمات لسفراء لبنان في نيويورك وعواصم القرار من أجل الاتصال بالدوائر والقنوات الدبلوماسية، لإظهار الموقف المستقلّ للدولة اللبنانية ورغبتها الصادقة في تحقيق وقف لإطلاق النار.
كذلك يجب على رئيس الحكومة ثمّ وزير الخارجية والسفراء اللبنانيين تكثيف إطلالاتهم عبر المنابر الإعلامية. لا يعقل في مثل هذا الظرف الدقيق، وبلدنا منذ قرابة سنة في حالة حرب تطوّرت مدياتها نحو التدمير الممنهج وإيقاع أكبر قدر من الخسائر بين المدنيين، أن لا تتجاوز إطلالات رئيس الحكومة أصابع اليدين.
ها قد أطلّ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عبر قناة “سي إن إن” الأميركية لتوصيل رسائل إلى الإدارة الأميركية وإلى الرأي العام حول الرغبة الجدّية لطهران في إرساء السلام والتهدئة وفتح صفحة جديدة في علاقاتها الخارجية. فضلاً عن تصريحات وزير خارجيته عباس عراقجي التهدويّة، فلماذا لا نفعل مثلهم؟ على الأقلّ من أجل إزالة الصورة المترسّخة في بعض دوائر صنع القرار بأنّ إيران تتحدّث باسمنا، في حين أنّها تدافع عن مصالحها.
الدبلوماسيّة المحلّيّة… والوحدة الوطنيّة
بالأمس دعا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد إلى “اتّباع الطرق الدبلوماسية من أجل وضع حدّ للحرب التي كلّ الأطراف فيها خاسرون ومغلوبون”. وقبله بيوم بادر رئيس التيار الوطني الحر إلى اتّخاذ موقف وطني يجب عدم التقليل من شأنه، تمثّل بعودة وزراء تيّاره إلى حضور الاجتماعات الحكومية. وغير بعيد عنه موقف القوات اللبنانية التي أوقفت المعارضة السياسية ودخلت في صمت. وصولاً إلى المواقف الوطنية التي أطلقها عدد من السياسيين المعارضين للحزب عقب اغتيال أمينه العام، بما يظهر حرصهم على السلم الأهلي. كلّ ما سبق يشكّل عناصر يمكن البناء عليها من أجل الخروج بموقف وطني لبنان بأمسّ الحاجة إليه لتجنّب الأسوأ.
لن يكون تكوين هذا الموقف لمخاطبة القوى العالمية فقط، بل من أجل الضغط على الحزب، وهنا بيت القصيد. لماذا لا يقدم الرئيس ميقاتي، بالتنسيق مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، على فتح حوار صريح وواقعي مع الحزب، أو ما بقي منه، من أجل إقناعه بأنّ المضيّ في المكابرة على الواقع وإنكاره لن يفيده في ترميم ما تهشّم من صورته. بل على العكس، سيعرّضه للمزيد من المفاجآت غير المحسوبة، ولا سيما مع سقوط المعادلات السياسية الإقليمية التي كانت تشكّل درعاً يتّكئ عليه. كما أنّ إصراره على المضيّ في الحرب يزيد من الاستياء المتكوم في بيئته الحاضنة في ظلّ الاستهداف الإسرائيلي المركّز لها، بما يعمّق من جراحها ويضاعف من شعورها بأنّها متروكة لمواجهة قدرها. ومن المفيد التذكير هنا بأنّ أحد أبرز العوامل التي بنى عليها الحزب شعبيّته هو قدرته على حماية بيئته.
البراغماتيّة الإيرانيّة… هل تصل إلى الحزب؟
بعد ما حدث، يحتاج الحزب إلى استثمار حالة التضامن الوطني لالتقاط الأنفاس والتخفيف من عظم الخسائر التي لحقت به في وقت قياسي، وتوظيف ذلك ضمن الإطار الوطني. يجب على الحكومة إقناع الحزب بأنّ إصراره على التوسّع نحو التحرّش بتل أبيب، سيكون له ثمن قاسٍ في العاصمة اللبنانية بيروت ومفاجآت لا يمكن توقّعها، خصوصاً في ضاحيته التي تواجه شبح الإبادة والتدمير، وسط موارد شحيحة وموقف دبلوماسي ضعيف للغاية، وتغطية إقليمية مفقودة.
لا تقلّ صدمة اللبنانيين المعارضين للحزب نخباً وجمهوراً عن الصدمة التي تعاني منها بيئته اللصيقة في ظلّ السقوط المدوّي لكلّ معادلات الردع. تأسيساً على ذلك، يجب على الحزب التحلّي بالبراغماتية الإيرانية الشهيرة، والانحناء أمام العاصفة لحفظ ماء الوجه، والأهمّ لحماية أهله وناسه.
إقرأ أيضاً: لأنّهم اليوم الشّيعة!
قبول الحزب التموضع خلف موقف الدولة اللبنانية، وتخلّيه عن الربط بين غزة ولبنان، ليسا خسارة له، بل تراجع تكتيكي يفسح المجال أمام الشروع في مفاوضات ترمي إلى إنتاج تسوية سياسية تحفظ له دوره. وهو الذي كان يبحث عنها ويناقش فيها على مدار الأشهر الفائتة. ذلك أنّ هذه التسوية قد تتجاوز إطار تطبيق القرار 1701 نحو ترسيم الحدود البرّية وإرساء تهدئة تحظى بمظلّة دولية تضمن الشروع في البحث مجدّداً عن الغاز.
كلّ ما سبق يتوقّف على قرار الحكومة القيام بواجباتها السياسية، وقرار رئيسها القيام بدوره الوطني، من أجل ملاقاة التحرّك الدبلوماسي العربي. ليس منطقياً أبداً أن تكون الدبلوماسية العربية أكثر حرصاً على مصلحة لبنان من حكومته.