طرابلس: كرامي والرافعي وبرّي… وأدوا الفتنة

2024-09-29

طرابلس: كرامي والرافعي وبرّي… وأدوا الفتنة

منذ بدء حركة النزوح إثر الغارات الإسرائيلية العنيفة الإثنين الماضي، تصاعدت حدّة الجدال والتراشق المنبريّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي في مدينة طرابلس، حيث ظهرت نزعة راديكالية تحرّض على النازحين. وتوّج هذا المناخ بحادثة نزع شعار الحزب عن سيارة عائلة نازحة. جرى تداول الفيديو بكثافة عبر وسائل التواصل وأخذت الحكاية حجماً فضفاضاً غير مطابق للوقائع… فكيف يبدو المشهد في طرابلس؟

 

ما يحصل في طرابلس يُعدّ ترجمة لخطاب الكراهية الذي ساد طوال عقد ونيّف. لكنّ تأثيره محدود جداً ولا يعكس وجود مناخ سلبي تجاه النازحين في عاصمة الشمال. فقد أثمرت مسارعة النائب فيصل كرامي، ورجال الدين السنّة بما يمثّلون من ثقل ديني – نخبوي، عن فرض انسحاب النخب السنّية من الواجهة والمواجهة، والجنوح إلى تهدئة الأجواء، وتفعيل القيم الإسلامية والوطنية التي تشكّل إرث طرابلس التاريخي. وهذا ما أنتج انسيابية في حركة استقبال النازحين. لكنّ الإشكالية تبقى في توفير اللوازم اللوجستية لمساعدة النازحين.

مبادرة كرامي تكسر الاستقطاب الحادّ

يكتسي الجدال الذي حاول البعض أن يلبسه ثوباً انقسامياً، أو منحىً مذهبياً، طابع الافتعال الواضح. ويرتبط بسياق الجدل “الفقهي” الذي ساد في الأسابيع القليلة الماضية في طرابلس، والذي أجّجه انجراف بعض أهل المدينة، من السنّة طبعاً، نحو استلهام حديث المرشد الإيراني علي خامنئي عن الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية. فما كاد بعض السنّة الموالين للحزب ينزلون إلى مداخل طرابلس لتصوير فيديوهات تظهر الترحيب بالنازحين، حتى اندلعت موجة من ردود الأفعال المضادّة. كلّ ذلك يدخل ضمن إطار الصراعات الطرابلسية المحلّية حول هويّة المدينة التي تتعرّض لتهديد جدّي حسبما ترى فئة من أبناء المدينة.

هنا تظهر أهمّية مبادرة النائب فيصل كرامي بما يمثّل من ثقل سياسي وتاريخي لإخراج قضية النازحين من سياق المشاحنات الضيّقة وإعادة وضعها في سياقها الوطني من خلال مبادرته إلى إجراء الاتصالات اللازمة لفتح فندق الكواليتي – إن المقفل منذ سنوات أمام النازحين، وكذلك المعهد الفندقي في الميناء الذي يتولّى إدارته قيادي في تيار الكرامة.

 تشير معلومات حصل عليها “أساس” إلى وجود تنسيق بين الرئيس بري ودار الفتوى والأجهزة الأمنيّة لمنع حصول أيّ فتنة

شكّلت مبادرة كرامي السريعة عاملاً محفّزاً للمجتمع الطرابلسي من أجل التحرّر من صراع الخطاب والأيديولوجيات، وتظهير القيم الإسلامية التي تعدّ من السمات التاريخية للمجتمع الطرابلسي المديني، وعلى رأسها “إغاثة الملهوف”.

طرابلس

يبدي النائب فيصل كرامي في حديث لـ”أساس” أسفه لعدم وجود تقدير لحجم الكارثة التي أصابت لبنان. ويكشف عن تحضيره مع تيار الكرامة منذ عدّة أشهر خريطة مسبقة لتوفير أماكن إيواء من مدارس ومعاهد وحتى شقق. “هذه الخطّة جرى تفعيلها فور بدء حركة النزوح. لكنّ الإشكالية تبقى في غياب الدولة ومؤسّساتها، وترك الناس للمنظّمات والمؤسّسات الاجتماعية والمبادرات الفردية، التي لا يمكنها مواجهة أعباء موجات النزوح المستمرّ بإمكانياتها المحدودة. تبدو المعركة طويلة، وهيئة إدارة الكوارث إن كان على مستوى لبنان، أو على مستوى محافظة الشمال، أعدّت خططاً جيّدة. لكنّها تعاني من غياب التمويل. في حين تمتلك الدولة في خزينتها رصيداً يجب توظيفه لمجابهة هذه المحنة”. ويختم كرامي: “نحجنا في استيعاب النزوح الأوّل، لكنّنا نفتقر إلى الإدارة الرشيدة لهذه الكارثة الوطنية”.

توفير مناخ آمن

“إغاثة الملهوف” هو العنوان الذي برز في اندفاعة دار الفتوى عبر رجال الدين من أجل إقفال النوافذ المذهبية والفقهية في هذا التوقيت الدقيق وتبنّي خطاب موحّد للخروج به على الناس في خطب الجمعة والوعظ الديني والتركيز فيه على القيم الإسلامية والإنسانية في السنّة النبوية المطهّرة.

خلال الأيام القليلة الماضية، بذل رجال الدين في طرابلس، على اختلاف انتماءاتهم الفقهية، جهداً جبّاراً لاحتواء تأثير خطاب الكراهية والأخبار المضلّلة التي تحدّثت عن انتشار السلاح والمقاتلين بين أفواج النازحين، وبلغت أعتاب الحديث المُريب عن “التغيير الديمغرافي” وادّعاء وجود خطر يهدّد هويّة طرابلس السنّية.

علاوة على ذلك، شكّلت قضية النازحين السوريين قنبلة موقوتة، في ظلّ وصول العشرات منهم إلى طرابلس من الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية في حالة يرثى لها، وبعضهم وصل على درّاجات نارية. وأسهم عدم استقبالهم في مراكز الإيواء. في ظهور نزعة سنّية ترجمتها لافتات متطرّفة انتشرت على نطاق ضيّق جداً.

خلال الأيام القليلة الماضية، بذل رجال الدين في طرابلس، على اختلاف انتماءاتهم الفقهية، جهداً جبّاراً لاحتواء تأثير خطاب الكراهية

بيد أنّ تدخّل رئيس هيئة علماء المسلمين الشيخ سالم الرافعي بالتنسيق مع دار الفتوى والأجهزة الأمنية، وبما يمثّل من ثقل ديني عند السلفيين الفئة الأعلى صوتاً في الاعتراض على استقبال النازحين، أسهم في تبريد الأجواء المحتقنة. فقد قام الرافعي بالإشراف على فتح مدرسة لتكون أوّل مركز إيواء للنازحين السوريين، أعقبتها مدارس أخرى. كما قام بنشر رسالة صوتية تخاطب هواجس الفئة المعترضة بأسلوب وعظيّ هادئ ومقنع.

إلى ذلك، تشير معلومات حصل عليها “أساس” إلى وجود تنسيق بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ودار الفتوى والأجهزة الأمنيّة، وعلى رأسها استخبارات الجيش، لمنع حصول أيّ فتنة. وهذا ما جرت ترجمته بوضوح في طرابلس عبر مناخ من السكينة والطمأنينة المشوب بالقلق من سياقات الحرب وشبح تحوّل لبنان إلى غزّة ثانية.

إرث يواجه الاستقطاب

موجات النزوح الأولى جرى استيعابها طرابلسيّاً عبر بعض مراكز الإيواء، وعبر شقق في ضاحية أبي سمرا ذات الهويّة السنّية الصافية، وبشكل أكبر منها في محلّة الضمّ والفرز التي تُعدّ موئل السكن الحداثي للطبقة البرجوازية. فيما بقيت المناطق الشعبية بشكل عام بمنأى عن عملية النزوح في المرحلة الأولى، وتوجد فيها العديد من المدارس الرسمية التي سيتمّ تحويلها إلى مراكز إيواء بالتدرّج. وكذلك الحال بالنسبة إلى وسط المدينة، حيث عدد قليل من الشقق استأجره نازحون يمتلكون قدرات ماليّة.

بيد أنّ اللافت أنّ النسبة الكبرى من المدارس التي تحوّلت في طرابلس إلى مراكز إيواء هي مدارس منطقة جبل محسن، حيث تسكن الأقلّية العلوية في ضاحية المدينة على جبل صغير. هناك جرى فتح 4 مدارس إلى جانب ثانوية القبّة الثانية التي شهدت حادثة وفاة الطالبة ماغي محمود قبل سنتين تقريباً، وجرى ترميمها بجهود محلّية كان المحرّك الرئيسي فيها النائب حيدر ناصر.

ما يحصل في طرابلس يُعدّ ترجمة لخطاب الكراهية الذي ساد طوال عقد ونيّف. لكنّ تأثيره محدود جداً ولا يعكس وجود مناخ سلبي تجاه النازحين

النائب الشابّ الذي تحظى جهوده بإشادات واسعة في أوساط عائلات جبل محسن ومجتمعها، كانت له مواقف بارزة خلال الأيام القليلة الماضية، بدءاً من إعصار البيجر، مروراً بمسارعته إلى فتح المدارس في جبل محسن لاستقبال النازحين، وصولاً إلى تجاوز الإشكال الذي كان مقصوداً به، ورفضه إيلاءه أهمّية، معتبراً أنّ الظرف الذي يمرّ به لبنان لا يحتمل الوقوف عند صغائر الأمور. تصبّ مواقف النائب حيدر ناصر ضمن سياسته الرامية إلى تظهير جبل محسن بأنّه جزء لا يتجزّأ من طرابلس وإرثها التاريخي ودورها الوطني، وليس جزيرة معزولة عن محيطها.

إقرأ أيضاً: الحزب يدفع ثمن تدخّلات سوريا.. وانقلابات لبنان

طرابلس ستتجاوز هذا الامتحان لأنّه على الرغم من كلّ ما عانته طرابلس وما تزال من سياسات التهميش والإفقار وعبث بعض الجهات لتحويلها إلى ساحة لتفريغ الأحقاد، إلا أنّها عند الامتحان أثبتت أنّ هويّتها السنّية المحافظة تختزن منظومة قيمية وأخلاقية يمكن الارتكاز عليها لتجاوز سياسات الاستقطاب الحادّ وصراعات المحاور. هذه المنظومة يمكن رؤيتها بوضوح في عشرات التفاصيل الصغيرة، التي غالباً ما يتمّ تجاهلها ضمن الصورة الكبيرة.

مواضيع ذات صلة

ما الذي يجمع بين أيمن نور المصري ووّهاب اللبناني؟

أيمن نور ووئام وهاب يقودان المعارضة السعودية الجديدة. في مشهد سوريالي يبين كيف أنّ هذه المنطقة العربية معقدة المصالح وأنها على بعد سنوات ضوئية في…

الموساد في بيروت: استجوَب محمد سرور.. حتّى الموت

لم يعد سرّاً أنّ قتل الصرّاف محمد إبراهيم سرور في بيت مري يحمل بصمات الموساد الإسرائيلي. فرقة إسرائيلية خاصّة دخلت لبنان واستأجرت فيلا في بيت…

نقولا سركيس: حصّة لبنان من نفطه الأقلّ عالمياً.. وللخروج من بؤرة فساد جديدة

  مؤخّراً بدأت احتفالات غير مبرّرة حين بدأ لبنان بحفر أول بئر للتنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية، وبالتحديد في البلوك رقم 4، قبالة…