منتصف حرب سوريا، جرى نقاشٌ عميق بين أحد أيديولوجيّي “الممانعة” وأحد ظرفائها حول مستقبل العلاقة بين طهران ودمشق، وبالتالي بين “الحزب” ودمشق.
فكانت وجهتا نظر. وكان تباينٌ واضحٌ بين الرجلين جعل الأيديولوجيّ يختم السجال بقوله لمحاوره: لا تنسَ يا رفيق بأنّ طهران هي وريثة إمبراطورية تُتقن قطعَ الرؤوس بخيط القطن وتصبر أعواماً لحياكة مترين مربّعين من سجّادها العجميّ، الذي يعيش بعد ذلك عقوداً طويلة!
فردّ الظريف فوراً: وكيف أنسى ذلك. فالخيطُ الذي تذكره حوّله صناعيّو حلب على الرغم من تهجيرهم ملابسَ قطنيّة داخلية باتت رائجة من إسطنبول إلى دبي. أمّا السجّادة العجمية الموعودُ إنجازُها بعد أعوام، فلقد باعها أمس الأول تاجرٌ دمشقيّ في سوق الحميدية لسائح صيني جاء يتعلّم الروسيّة في الساحل السوري!
هذا النقاش عادَ إلى الواقع والحاضر بقوّة اليوم، بين نكبات “الحزب” في بيروت، وانهماك دمشق بتغيير “وزير التقانة”، وصولاً إلى كلّ حكومتها وأكثر.
يُجمع كثيرون على أنّ مِن أكثر قرارات حافظ الأسد رؤيويّةً وصوابية استراتيجية، كانت مسارعته إلى الوقوف مع الخميني، فور وصول الأخير إلى السلطة في طهران سنة 1979.
طبعاً لم تكن تنقصه الأسباب ولا الدوافع. ولم تكن خافية أصلاً. يكفي أن يكون حليفه الجديد على حدود شقيقه البعثي اللدود في بغداد. ويكفي التحاف الاثنين بـ”قميص فلسطين” لتغطية النظامين المذهبيَّين في بلاد أميّة والعباسيّين من حماه حتى عربستان.
“محورٌ” كاملٌ مشغول بأولوية الردّ على جرائم حرب نتنياهو. فيما دمشق منكبّة على إصدار قانون عفو، تمهيداً لبناء مجتمع ما بعد حربها
أصابَ رهان الأسد الأب. ونجح طوال 21 عاماً حتى رحيله سنة 2000، من الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، إلى حرب التحرير الأميركية للكويت سنة 1990، وما سبقهما وتلاهما من أزمات في المنطقة. كان الأسد متطابقاً في موقفه دوماً مع نظام الملالي. ينسّقان معاً في الإقليم. ويحصد هو النتائج والثمار في فضاء نفوذه السوري الخصيب.
الأسد.. والخطوط السّعوديّة
لكن طوال تلك الفترة، ظلّ الأسد يتعامل مع الملالي بحذر. وهو ما ظهر في لبنان مراراً. فهو حرص على إبقاء خطوطه مفتوحة مع العرب والخليج تحديداً. وخصوصاً مع السعودية. لم يتركها يوماً. ولم يصدّها مرّة في الشأن اللبناني حتى أقام تركيبة “طائفه” الخاصّ على ركيزة أساسية هي رفيق الحريري الذي جمع في ما جمع بشخصه الرياض وباريس وواشنطن وغيرها الكثير من العواصم.
لا بل ذهب حذرُ الأسد الأب أبعد. قيل إنّه لم يستقبل الأمين العامّ للحزب قطّ، منذ تسلّم الأخير منصبه في شباط 1992 حتى رحيل الأسد في حزيران 2000، على الرغم ممّا تخلّل تلك الفترة من استحقاقات وتحدّيات:
– دخول “الحزب” الدولة اللبنانية مع تركيب برلمان 1992.
– عملية “تصفية الحسابات” الإسرائيلية في تمّوز 1993.
– ثمّ “عناقيد الغضب” في نيسان 1996.
– وصولاً إلى دحر الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان، قبل أسبوعين من موت حاكم دمشق.
لم يطأ “السيّد” قصر المهاجرين مرّة خلال أحداثها كافّة.
منتصف حرب سوريا، جرى نقاشٌ عميق بين أحد أيديولوجيّي “الممانعة” وأحد ظرفائها حول مستقبل العلاقة بين طهران ودمشق
بل ظلّ تعامله محصوراً مع “رجال الأسد” في لبنان. وبعضهم يروي الكثير من خفايا ذلك التعامل. ويغمزُ من قناة ذلك الفيديو الشهير المسرّب عن اجتماع قيادة “الحزب” مع “الغازي الكنعانيّ” على أرجيلة الأخير، وهو ما عبّر عنه “السيّد” ذات يوم في خطاب له، حين خرجت منه عبارة “التحقيق العنجريّ… وما أدراكم ما التحقيق العنجريّ”!
حتى ـنّ الأب حذّر الحريري من رفع الحظر عن الطائرات الإيرانية في مطار بيروت، قال الأسد الأب لرفيق الحريري: “شو بدّك بهالشغلة؟! خلّيهن يضلّوا يحطّوا في دمشق. فهنا القدرة على مراقبتهم وضبطهم أكبر وأكمل”.
حرب بغداد… تهزّ الأسد الابن
مضت الأيام. ورحل الأسد الأب. وتغيّر بعده الكثير.
لم يُعطَ ابنُه الوقت حتى لتسلّم المقاليد. عاجله أهلُ البيت بربيع دمشق. فانقضّ عليه “الحرس القديم”، بزعامة أبي جمال، الثائر للحرّية لاحقاً.
أُربكَ الأسد الابن منذ اللحظات الأولى. بعدها توالت التحدّيات الكبرى: 11 أيلول ونقزة واشنطن من العالم السنّيّ. بعدها التمهيد لاجتياح العراق في ظلّ تناغمٍ أميركي – إيراني كامن. بينما دمشق لا تتلقّى سوى تهديدات كولن باول. فأُربكَ الأسد الجديد أكثر.
لم يتشجّع على تكرار مبادرة والده في الوقوف مع واشنطن في حرب بغداد. فبدأ فوراً مخطّطُ إلغاء وكالته الغربية في بيروت. فخرجَ منها سنة 2005. فلاحقوه إلى قلب دمشق بعد أعوام قليلة. حتى انفجرت حربها وحربه.
بعد أقلّ من عام على الحرب السورية، بدا وكأنّ حكم الأسد يتداعى. فهبّ إليه أوّلاً من راهن والده عليه قبل 30 سنة. جاء الإيرانيّ داعماً. وجاء بحزبه اللبناني معه. ثمّ جاء له بالعراقي والأفغاني والباكستاني وكلّ أذرعه… ولمّا لم يكفِ ذلك كلّه، سافر قاسم سليماني إلى موسكو. جلس مع قيصرها ساعات حتى أقنعه بالتدخّل في دمشق. فنجا الأسد وصمدَ نظامه.
بعد أقلّ من عام على الحرب السورية، بدا وكأنّ حكم الأسد يتداعى. فهبّ إليه أوّلاً من راهن والده عليه قبل 30 سنة. جاء الإيرانيّ داعماً. وجاء بحزبه اللبناني معه
إيران “تحكم” دمشق؟
ومرّت الأعوم مجدّداً. قيل أنّ الإيراني بات يتصرّف في دمشق وكأنّه حاكمها. أو على الأقلّ، كأنّ له الفضل الأوحد في بقاء حاكمها حيّاً، في الأمن والعسكر والاقتصاد والاستثمار والعقار، وحتى في السوسيولوجيا والتشييع والتطويع.
حتى قيل إنّ شيئاً من “استياء” بدأ يظهر لدى السوريين.
لكنّهم سكتوا على مضض. حتى كانت 7 أكتوبر. انشغل الإيراني بكلّ أذرعه في غزة. قرّر فتح جبهة جنوب لبنان، للشراكة في “الاستثمار الإخوانيّ”، الذي بدا في الأيام الأولى مربحاً. فيما انشغلت دمشق في النأي بنفسها عن المستنقع.
الخليج يحيّد سوريا عن “الطّوفان”
قيل أنّ اتصالاً هاتفياً خليجياً فُتح مع قصرها بعد ساعات على “طوفان الأقصى”. وقيل أنّه استمرّ ساعات أيضاً. وقيل أنّه انتهى إلى توافق كامل على تحييد سوريا.
ويُروى أنّ مسؤولاً إيرانياً جاء يستفهم من مسؤول أمنيّ سوري كبير عن إمكانية تحريك الجولان. فقال له زميله السوري: إسمع، بين مسجد السيّدة نفيسة غرب قلعة حلب وبين أوّل إدلب لدينا 125 ألف جندي سوري متأهبّون للقتال منذ 13 عاماً. فاترك لنا الجولان الآن.
وطال طوفان الأقصى. 11 شهراً. وثقلت خسائره. ودمشق نائية بنفسها. حتى بدأت معالم التصعيد تنذر بتوريط دول المنطقة.
وهو ما يتلهّف له نتنياهو تلبية لتوحّشه. ضرب الضاحية الجنوبية مرّة واثنتين وثلاثاً. ثمّ ضرب طهران نفسها. قضى على إسماعيل هنية في غرفة نوم حرس الملالي.
لم يُعرف مقدار الدمع الذي ذُرف في دمشق على هنيّة حتى لا تقول أنّ هناك من ظهرت ابتسامة على وجهه. لكنّ الأسد كان يومها في موسكو. بعدها أوفد بوتين رجلَه الأمنيّ والعسكري شويغو إلى طهران حاملاً رسالة عاجلة من “القيصر إلى القائد”: اترك لي سوريا بلا تورّط ولا توريط.
وقيل أنّ الملالي قبلوا الأمر. ولو لم يتقبّلوه. فهموا الرسالة. ولو لم يتفهّموها.
مرّت الأعوم مجدّداً. قيل أنّ الإيراني بات يتصرّف في دمشق وكأنّه حاكمها. أو على الأقلّ، كأنّ له الفضل الأوحد في بقاء حاكمها حيّاً
الأسد يعود إلى الخليج
في هذا الوقت كانت أنقرة تنفتح على دمشق برعايةٍ روسيّة. وكانت دمشق تعود إلى الخليج من بوّابة قمّة جدّة لمجرّد الكلام عن مأساة غزة.
هكذا وعلى مدى أشهر، بدا وكأنّ الحليفين الاستراتيجيَّين يسيران على خطّين متمايزين: خطّ “الحزب” في الإسناد لغزّة المندثرة. وخطّ الأسد في الانهماك بأولويّات بلاده ونظامه وما بقي فيهما ومن ناسهما.
قبل يومين، شاءت المصادفة أن يظهر التمايز فاقعاً بين الخطّين: طهران و”الحزب” يواجهان نكبات متتالية قاتلة، من “البيجرز” والآيكوم إلى تصفية القيادات والتدمير المنهجي الكامل لبنية دفاعية أُقيمت على مدى 18 عاماً.
فيما دمشق منهمكة بترقية فيصل المقداد لتنحيته، من وزير خارجية فاعل نسبياً، إلى مجهول برتبة نائب رئيس لا يفعل شيئاً مطلقاً، تماماً وفق نموذج خدّام والشرع قبله.
“محورٌ” كاملٌ مشغول بأولوية الردّ على جرائم حرب نتنياهو. فيما دمشق منكبّة على إصدار قانون عفو، تمهيداً لبناء مجتمع ما بعد حربها.
لبنان كلّه، لبنانُ وحدةِ المسار والمصير، والشعب الواحد في البلدين، والتوأم والرئة والصدر والعجز… وسوى ذلك من أدبيات الوصاية، لبنانُ هذا مربوطٌ بقعر نفق السنوار…
إقرأ أيضاً: ماتوا… ممنوعين من الاعتراض
فيما بشار الأسد يُعطي توجيهاته لحكومته الجديدة بأنّ الأولوية للاقتصاد ولحسن إدارة الدولة. ولم ينسَ طبعاً ضرورة التضامن مع الإخوة اللبنانيين والوقوف معهم في ظروفهم المأساوية!
ما الغرابة في ذلك كلّه؟!
لا شيء قطعاً. فهذه سوريا وهذه مصالح سوريا. وهذا رئيسُها يلتزم تنفيذ مصالحها كاملة.
تماماً كما تنفّذ إيران مصالحها منذ أعوام، عندنا وفي غير مكان.
وحدها مصلحة لبنان مغيّبة ممنوعة ومحظورة في بيروت. فالبديهي أن تغيب عن كلّ مكان.
في الختام وعوداً على بدء، يروى أن تاجراً إيرانياً حمل سجادة عجمية وجاء يبيعها في الشام. فساله تاجر دمشقي:
كم استغرقت حياكتها؟
فأجابه: عشرة أعوام.
فرد الدمشقي: ولماذا أنت مستعجل على بيعها؟!
هكذا هي الحال اليوم تماماً.
لمتابعة الكاتب على X: