إيران بين أوهام الإمبراطوريّة وبراغماتيّة الدّولة

مدة القراءة 7 د

“ويشبّ في قلبي حريق ويضيع من قدمي الطريق، وتطلّ من رأسي الظنون تلومني وتشدّ أذني، فلطالما باركت كذبك كلّه ولعنت ظنّي.

ماذا أقول لأدمُع سفحتها أشواقي إليك؟ ماذا أقول لأضلع مزّقتها خوفاً عليك؟

لا تخجلي، لا تفزعي منّي، فلست بثائر، أنقذتني.. من زيف أحلامي وغدر مشاعري

 فرأيت أنّك كنت لي قيداً حرصت العمر ألّا أكسره، فكسرته…

ورأيت أنّك كنت لي ذنباً سألت الله ألّا يغفره، فغفرته.

كوني كما تبغين لكن لن تكوني، فأنا صنعتك من هواي، ومن جنوني

ولقد برئت من الهوى ومن الجنون”.

كامل الشناوي

 

لم أجد أبلغ من هذه القصيدة للتعبير عن خيبة الأمل والثورة على إهمال الوعود ونكثها.

في بدايات الحرب العراقية الإيرانية الطويلة في ثمانينيات القرن الماضي، اجتمعنا في بيت حزبيّ بعثيّ عراقي عتيق في طرابلس حول مسألة تلك الحرب. حاضر فينا بعض الحزبيين عن العروبة وعن كون صدّام يخوض “قادسيّة” جديدة عن العرب كلّهم، وإلى ما هنالك من كلام الدعاية المعهودة لتسويغ الموت من أجل القضية كما الإيمان بحكمة القائد وشجاعته.

تتابع الاستهدافات الدموية والقمعية التي طالت الأحزاب والمنظّمات اليسارية والوطنية من قبل منظومة ولاية الفقيه شكّل نوعاً من التساؤلات بخصوص تحوّل الثورة إلى نظام قمعي

الرّهان على ثورة الخمينيّ

قبل انطلاق تلك الحرب، كنت أنا اليساريّ أعتبر أنّ الثورة الخمينية قد تكون نقطة تحوّل تاريخية توحّد الإسلام التقدّمي والثوري مع اليسار لمواجهة الإمبريالية الأميركية وطرد أتباعها من الحكم في بلادنا. كما أنّني كنت معجباً بخطوة احتلال السفارة الأميركية في طهران، باعتبارها “وكر الجواسيس”، كما إغلاق السفارة الصهيونية في طهران، وتسليم مفاتيحها إلى منظمة التحرير الفلسطينية. خطوة كانت كأنّها من خارج سياق التاريخ أتت بعد طرد أميركا من فيتنام قبل أربع سنوات، لتنعش آمال المستضعفين في العالم بأنّ كسر الاستكبار أمر ممكن بالوحدة والنضال.

لكنّ تتابع الاستهدافات الدموية والقمعية التي طالت الأحزاب والمنظّمات اليسارية والوطنية من قبل منظومة ولاية الفقيه شكّل نوعاً من التساؤلات بخصوص تحوّل الثورة إلى نظام قمعي على الرغم من أنّ سبب ثورة شعب إيران أساساً كان على خلفيّة قمع جهاز الشاهنشاه البهلويّ للحرّيات السياسية. لكنّني على الرغم من ذلك افترضت أنّ الحقّ كان على الضحايا الذين عُلِّقوا على حبال المشانق لأنّهم استهدفوا الثورة وهي فتيّة.

ثماني سنوات من صراع سقط فيه حوالي مليون ضحيّة انتهت باستسلام الطرفين مع أنّهما احتفلا بالانتصار

الاعتراض على القيادة

ما لنا ولكلّ تلك الذكريات النوستالجيّة لمن هم مثلي يراجعون ذواتهم في أواخر أيامهم، فيجلدون أنفسهم ويحاسبونها على سوء الحسابات وضعف التقدير وضحالة التحليل، فينعتهم البعض بالردّة عن نقاوة الفكر اليقينيّ الذي يبتلع عادة عقول الشباب ويسير بهم إلى كهولتهم من دون هدى كأعمى يقود عمياناً.

المهمّ هو أنّني وقفت أمام الرفيقة القائدة وقلت لها إنّ من المستغرب أن يشنّ العراق حرباً على جارته التي أعلن قادتها الالتزام بقضية العرب الكبرى في فلسطين وتبنّت شعارات مماثلة لتلك التي كان عراق البعث يرفعها في مواجهة الاستعمار. أما كان من الأفضل أن يتضامن العراق مع إيران كبلدين يحملان القضية ذاتها بدل الصراع الذي يضعفهما؟

استغرب الحاضرون من سؤالي لدرجة الاستهجان. لكنّ السيّدة القائدة قالت: “أتعلم أنّ الرفيق القائد أرسل رسالة تهنئة للخميني بنجاح الانقلاب، فردّ عليه بافتتاحية السلام على من اتّبع الهدى، وهو ما يقال لغير المسلم”. ثمّ نظرت في وجهي لترى ردّ الفعل الذي بقي منتظراً لسبب مقنع: “كان القرار الحكيم هو استباق الهجوم الإيراني ومباغتته، واسترجاع أرض العرب السليبة في الأهواز”. لاحظت القائدة عدم اقتناعي وأكملت الحديث متوجّهة إلى باقي الموجودين، ولم يدعُني أحد بعدها إلى أيّ اجتماع. وخلال سنة تقريباً قامت جماعة تبيّن لاحقاً أنّها تابعة لإيران باجتياح مقرّات حزب البعث.

ثماني سنوات من صراع سقط فيه حوالي مليون ضحيّة انتهت باستسلام الطرفين مع أنّهما احتفلا بالانتصار. ومرّت صفقة الكونترا-إيران عندما سلّمت إسرائيل أسلحة لإيران لتواصل حربها مع العراق، ودمّرت إسرائيل مفاعل أوزيراك النووي في العراق.

مرّت صفقة الكونترا-إيران عندما سلّمت إسرائيل أسلحة لإيران لتواصل حربها مع العراق، ودمّرت إسرائيل مفاعل أوزيراك النووي في العراق

درس إيران: الحروب فقط بالوكالة

لكنّ الدرس الذي تعلّمته إيران منذ تلك الحرب هو أن لا تخوض أيّ صراع إلّا بالوكالة. وكان الحزب باكورة إنجازاتها منذ اجتياح أرييل شارون لبنان 1982 الذي أحدث فراغاً كبيراً في الساحات، ثمّ بدأ توكيل التفجيرات والعمليات الموجعة والنوعية.

كان الاجتياح الأميركي للعراق المناسبة العظمى لإيران لتسرح وتمرح وتعمّم تجربتها في حروب الوكالة مستفيدةً من الفوضى التي ساهمت في تعميمها في محيطها في العراق وسورية ولبنان واليمن. ثمّ توافد آلاف من المتطوّعين المذهبيين وفي ظنّهم أنّهم بخدمة مشروع ولاية الفقيه سيعجّلون بإخراج الغائب من غيبته الكبرى، ويصبحون من بعدها من الفئة الناجية. بالطبع لا أريد أن أقول إنّ جميع المنضوين تحت راية الوليّ الفقيه أتوا لأسباب إيمانيّة. ففي كلّ الأمور يختلط السعي إلى السلطة والمال وضيق الحال بالمقدّس. لكن ما تحقّق هو أنّ إيران تحوّلت إلى قوّة إمبريالية تخوض صراعاتها على طريقة قوى الاستكبار الأخرى بالوكالة، مستندة إلى حميّة ونقاوة الوكلاء الإيمانية، كما إلى سعيهم إلى السلطة والرزق.

ليس من المستهجن ولا المستغرب تصرّف رئيس إيران الجديد ونائبه الظريف ولا كلامهما وتصريحاتهما في نيويورك

إيران تتخلّى عن بعض نفوذها؟

من هنا، ليس من المستهجن ولا المستغرب تصرّف رئيس إيران الجديد ونائبه الظريف ولا كلامهما وتصريحاتهما في نيويورك التي بدوا فيها وكأنّهما داعيتا سلام لا شأن لبلدهما بما يحدث من حروب يخوضها عشرات آلاف الشبّان بالوكالة عن بلدهما. فمن المنطقي أن يسعى أيّ رئيس إلى تحقيق مصلحة بلده وشعبه من خلال دراسة الأرباح والخسائر. ومن خلال هذه الموازين قد تتخلّى إيران عن بعض مقوّمات نفوذها من أجل الحفاظ على مقوّمات وجودها كدولة ونظام واقتصاد ومصالح وأمان. ومن الواضح أنّه بعد تجارب طويلة في مسار تصدير الثورة تعلّمت إيران وجوب التواضع والانحناء أمام الريح العاتية بدل الانتحار لنصرة من وضع حياته ومصالحه ومستقبله في خدمة مصلحتها.

لا دور لي للحديث عن الحوثيين ولا عن الحشد الشعبي ولا عن الفاطميين والزينبيّين، فلا شأن لي بهم ما دامت وعودهم بالزحف نحو لبنان حتى هذه اللحظة تبدو غير صادقة. ما يهمّنا اليوم هو كيف يفهم اللبنانيون الذين رهنوا حياتهم ومستقبلهم، مستندين إلى أنّ إيران الثورة الجبّارة التي وفّرت السلاح والدعم والمعاشات، كما أوهام التفوّق على لبنانيين آخرين، تقود هذا التحوّل المنطقي والبراغماتي إلى الدولة المحبّة للسلام بين الشعوب، وبالأخصّ بينها وبين المستكبرين في الغرب.

ذكّرنا مراراً بتجارب الشعوب الأخرى الطائفية ووكالاتهم لحساب آخرين، لكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ واليوم وصلت الأمور إلى لحظة سقوط الأوهام، وعلى ذوي الألباب أن يختاروا كيفية حصر الخسائر.

إقرأ أيضاً: لبنان ضحيّة منطق إيران… ولامنطق الحزب

هل أصبح الطريق مفتوحاً للعودة إلى الدولة والشراكة بظلّ الدستور والشرعيات الأساسية؟

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…