بمعزل عن سياقها، حملت تلك العبارات التي قالها مسؤول ملفّ الموارد والحدود في الحزب، النائب السابق السيّد نواف الموسوي، بُعداً تهديدياً واستفزازياً. وكانت عرضة للتأويل على مواقع التواصل بالنظر إلى خطورة القول وموقع قائله التنظيمي داخل حزبه. فهو قال بالحرف: “واحد كلّ قصّته يريد أن يعمل رئيس جمهورية. هذا ما يعنيه من كلّ العملية. لكن هو لن يتمكّن من ذلك. لن يصل. وعلى فرض من قال له إنّك ستصل. فلن يعيش. لن يبقى. وهذا صار. هناك واحد انتُخِب. وطلع حبيب الشرتوني. وعمل واجبه الوطنيّ”.
المتعارف عليه أنّ إطلالات أيّ مسؤول في الحزب عادة ما تكون مدروسة ومتّفقاً عليها. وهي غالباً ما تكون لغرض توضيح أو كشف تفاصيل معيّنة، أو تحمل بعداً سياسياً. فكيف إذا كان صاحب القول المتداول نائباً استقال بطلب من حزبه، وتغيّب عن الإعلام لفترات طويلة ثمّ عاد إلى الظهور بقرار.
المتعارف عليه أيضاً أنّ لـ”السيّد نواف”، كما يناديه أصحابه والمقرّبون منه، تلقائيّته في عباراته التي يتلفّظ بها بلا توليف أو رقابة ذاتية. بشهادة تلك العبارات التي كان يتلفّظ بها في جلسات مجلس النواب يوم كان نائباً، ومع كلّ عبارة يسارع رئيس المجلس إلى القول: “تُشطَب من المحضر”.
ذهب الموسوي بعيداً إلى حدّ تهديد أيّ رئيس يُنتخب خارج إرادة الحزب بأن يلقى مصير بشير الجميّل: القتل
في حين يقول خصومه إنّه بات الوجه الذي يكلّفه الحزب إيصال الرسائل “القاسية”، ولتمرير مواقف يمكن وضعها في سياق “زلّة اللسان” والتبرّؤ منها لاحقاً، على قاعدة تلقائيّته التي يمكن للحزب التملّص منها بسهولة.
تهديد بقتل رئيس؟
في معرض إطلالته المتلفزة الأخيرة مع الزميلة منار صباغ على قناة “المنار”، تحدّث الموسوي عمّن غايتهم الرئاسة والرئاسة فقط من كلّ ما يجري حولهم ليسرد قصّة بشير الجميّل على طريقته، باعتباره قتل على يد حبيب الشرتوني “كواجب وطني”: “واحد انتُخب. طلع حبيب الشرتوني وعمل عمل وطني. ثمّ جاء أخوه وحكم من أيلول 1983 فماذا حصل؟ تحرّرت الضاحية ثمّ بيروت في شباط 1984 إلى أن ذهب يستنجد بالأسد”. وختم لينصح “ألّا ينسى أحد تاريخه وأن يفترض ماذا سنفعل”.
الموسوي وإن لم يأتِ على تسمية الأشياء بأسمائها لكنّه غمز من قناة رمز مسيحي لا يزال لاغتياله أثر في وجدان شريحة كبيرة من المسيحيين
إلى هنا انتهى المقطع الذي تمّ تداوله على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي وشكّل في مكان ما إحراجاً لأيّ مسيحي تربطه علاقة مع الحزب. فالموسوي وإن لم يأتِ على تسمية الأشياء بأسمائها لكنّه غمز من قناة رمز مسيحي لا يزال لاغتياله أثر في وجدان شريحة كبيرة من المسيحيين. وهو الرئيس بشير الجميّل الذي اغتاله حبيب الشرتوني في انفجار أودى بحياة عدد كبير من المسيحيين في مقرّ حزب الكتائب بالأشرفية. وكانت لحظة تاريخية مختلَفاً على مقاربتها لبنانياً وحتى مسيحياً. فما الجدوى من إعادتها إلى الذاكرة ومن باب التهديد بالمثل لأيّ رئيس ينتخب خارج التوافق؟
ذهب الموسوي بعيداً إلى حدّ تهديد أيّ رئيس يُنتخب خارج إرادة الحزب بأن يلقى مصير بشير الجميّل: القتل. هذا ما يظهر في المقطع المتداول. وبلغة صريحة لمّح في أبعاد ما قاله إلى أنّ كلّ من يفكّر بانتخاب رئيس خارج إرادة التوافق مع الحزب سيكون مصيره القتل.
فهل كان القصد التهديد فعلاً؟
ما انتشر من مقابلة الموسوي يشير إلى وجود اجتزاء متعمّد وفصل الحديث عن سياقه. لكنّ هذا لا يلغي حقيقة أنّ ما قاله هو ما يتخوّف منه الحزب فعلاً
الحزب يوضح: “كلام مُجتزأ”
هذا المنطق لاقى استياءً في بعض الأوساط المسيحية من ناحيتين:
– أوّلاً تهديد أيّ رئيس منتخب.
– وثانياً اعتبار ما قام به الشرتوني “عملاً وطنياً”. وهو قتل زعيم مسيحي له مكانته في الوجدان المسيحي: “فهل يمكن لجريمة قتل أن تكون عملاً وطنياً”؟ أوليس هذا هو بشير الجميّل الذي ظهر الأمين العام للحزب في أحد خطاباته ليقول إنّه يتوافق معه على الـ”10,452″؟
لكن على طريقة “لا إله” تمّ التعاطي مع حديث الموسوي بحيث تمّ اجتزاء ما قاله والبناء عليه ليتبيّن أنّ مواقفه اندرجت في معرض حديثه عن “لوبي صهيوني” في لبنان و”أكثر من صهيوني” يراهن “على هزيمة المقاومة وغايته رئاسة الجمهورية”. ومن هنا فتح الباب على حديثه عن وقائع انتخاب بشير الجميّل ثمّ اغتياله وتسلّم شقيقه أمين الجميّل الحكم ثمّ فشله مروراً بأحداث الضاحية وبيروت، إلى أن انتهى به الأمر يزور حافظ الأسد، على ما يشرح مسؤول في الحزب، دون أن يفوته القول أنّهم “يريدون العودة بالتاريخ إلى عام 1982، أي الاستقواء بالإسرائيلي”.
إذا كان الاجتزاء جزءاً من اللعبة السياسية ونوعاً من أنواع الحرب الإعلامية، فإنّ الحزب قد يكون تقصّد هو أيضاً اللعب على وتر الكلمات وتبيان فائض قوّته
ما انتشر من مقابلة الموسوي يشير إلى وجود اجتزاء متعمّد وفصل الحديث عن سياقه. لكنّ هذا لا يلغي حقيقة أنّ ما قاله هو ما يتخوّف منه الحزب فعلاً. ويدور الحديث من حوله في كواليسه عن رهانات داخلية على هزيمته.
الحزب لن يقبل برئيس خارج إرادته
الحزب المنغمس في “جبهة الإسناد” في جنوب لبنان. وهو يؤكّد أنّه لن يعود إلى الوراء. ويعتبر أنّ معركته الحالية مع إسرائيل ستوثّق لمرحلة جديدة من تاريخ وجوده في المنطقة. ولن يقبل بوجود جماعات لبنانية تراهن على هزيمته وتستعدّ للانقضاض عليه في لحظة تشهد تحوّلات من لبنان إلى سوريا والمنطقة بأكملها، وأن يُنتخَب رئيس للجمهورية عنوة عن إرادة فريق من اللبنانيين. عن هؤلاء تحدّث الموسوي، فظهر في حديثه “فائض قوّة” و”تهديد مبطّن”.
المتعارف عليه أنّ إطلالات أيّ مسؤول في الحزب عادة ما تكون مدروسة ومتّفقاً عليها. وهي غالباً ما تكون لكشف تفاصيل معيّنة، أو تحمل بعداً سياسياً
إذا كان الاجتزاء جزءاً من اللعبة السياسية ونوعاً من أنواع الحرب الإعلامية، فإنّ الحزب قد يكون تقصّد هو أيضاً اللعب على وتر الكلمات وتبيان فائض قوّته، كأنّه يخاطب الخارج بهذه اللغة، خاصة أنّ مقابلته عرضت لمآرب الولايات المتحدة وما تصبو إليه من حرب إسرائيل في المنطقة. لكن بالطبع حتّى هذا لا يبرّر أن يلجأ إلى لغة التشفّي والتهديد بالقتل، ولا سيما من حزب يسجّل معركته التاريخية في وجه ترسانة أميركا وإسرائيل، وفي أوج الحاجة إلى الالتفاف الداخلي حوله في خطاب جامع.
يأتي حديث الموسوي عقب خطابين آخرين مختلفين يعبّران عن سياسة الحزب ومواقفه أيضاً. أحدهما صدر عن النائب علي فياض عن الحوار وضمانة السلاح واللامركزية الإدارية، وثانيهما مقالة نشرها النائب حسن فضل الله عن الحوار مع الآخر ودستورية سلاح المقاومة.
إقرأ أيضاً: سلامة والمظلّة السّياسيّة: الكلمة للقضاء
إذاً جاء ترهيب الموسوي بعد ترغيب فياض وفضل الله.
هل هي مرحلة جديدة يدشّنها النائب السابق أم كلامه مجرّد رصاصة طائشة لم يتبنَّها الحزب لكن لم يجد مصلحة لنفيها؟