لم يكُن عفويّاً اختيار الرّئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان أن يكون العراق وجهته الخارجيّة الأولى بعد تسلّمه المهامّ الرّئاسيّة. إذ جاءَت الزّيارة في توقيت إقليميّ دقيق ومُعقّد، وسبقها إعلان مسؤولين عراقيين عن التّوصّل إلى اتفاقٍ حول انسحاب القوّات الأميركيّة من البِلاد بشكلٍ تدريجيّ مع نهاية 2026.
كما أنّ العلاقة بين طهران وبغداد تشوبها تعقيدات ماليّة بسبب العقوبات الأميركيّة، وأخرى سياسيّة وأمنيّة عنوانها الوجود الكرديّ المُعارض في منطقة الحدود بين البلديْن. وهو ما يُعقّد العلاقة بين طهران وعاصمة إقليم كردستان، إربيل. الأهمّ أنّ إيران تنظر إلى بلاد الرّافديْن كبوّابة عبور استراتيجيّة لمشروعها نحوَ سواحل البحر المُتوسّط في سوريا ولبنان… فماذا وراء زيارة بزشكيان للعراق؟
قرّرَت إيران تأكيد أهميّة العراق الجيوسياسيّة والاقتصاديّة بالنّسبة إليها. فكانَ رئيسها مسعود بزشكيان يزور بلاد الرّافديْن لتأكيد ذلكَ أمام العالم أجمَع قبل توجّهه إلى مدينة نيويورك الأميركيّة للمشاركة في أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المُتحدة.
تأكيد أهميّة العراق جاءَ بعد إعلان المستشار الأمنيّ لرئيس الوزراء العراقيّ أنّ بغداد تفاهمت مع واشنطن لسحبِ قوّاتها من العِراق. فكانَ بزشكيان يؤكّد بزيارته الخارجيّة الأولى أنّ بلاده هي التي ستملأ الفراغ الأميركيّ في حال الانسحاب.
لم يكُن عفويّاً اختيار الرّئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان أن يكون العراق وجهته الخارجيّة الأولى بعد تسلّمه المهامّ الرّئاسيّة
واشنطن.. لا انسحاب من دون مقابل
لكنّ مصدراً في وزارة الخارجيّة الأميركيّة قال لـ”أساس” إنّ أيّ انسحابٍ أميركيّ من العراق سيكون مرتبطاً بالوضع الأمنيّ في المنطقة، وإنّ واشنطن قد تُعدّل في خطط الانسحاب، التي لم يكتمل الاتّفاق عليها بحسب المصدر، في حال كانت هناك حاجة أمنيّة وسياسية لضمان مصالح الولايات المُتحدة. لذلك لم تُعلن واشنطن حتّى السّاعة الخطوات التي كشفها الجانب العراقيّ. ذلكَ أنّه لا نيّة في الولايات المتحدة لإعطاء إيران أيّ فرصة للتغلغلِ في العِراق من دون اتفاقٍ سياسيّ – أمنيّ يلحظُ حدود هذا التغلغل.
لم ينفِ الكلام الأميركيّ عنوان الانسحاب. لكنّه رهنَ ذلك باتفاق سياسيّ وأمنيّ مع إيران. ذلكَ أنّ أيّ انسحابٍ كامل من العراق من شأنه أن يؤدّي إلى سحبِ غالبيّة القوّات الأميركيّة في الجارة سوريا، مع ما يعنيه ذلكَ من فراغٍ واسع ستملؤه إيران بالتعاون مع روسيا وتركيا على حساب “قوّات سوريا الدّيمقراطيّة” ذات الغالبيّة الكرديّة المُتحالفة مع واشنطن.
مصدر في وزارة الخارجيّة الأميركيّة: أيّ انسحابٍ أميركيّ من العراق سيكون مرتبطاً بالوضع الأمنيّ في المنطقة
حتميّة الانسحاب من سوريا مردّه إلى الواقع اللوجستي والعمليّاتيّ للقواعد الأميركيّة في سوريا التي تعتمدُ على القواعد الأساسيّة في العراق مثل قاعدة “عين الأسد” في الأنبار غرب البلاد. لهذا أيضاً قد يتروّى الأميركيّون قبل أيّ انسحابٍ يُعطي إيران وروسيا موطئ قدمٍ في شرق الفُرات ويمنحهما فرصة إعلان النّصر الكامل في سوريا على اعتبار أنّ التوصّل إلى تفاهمٍ مع تركيا بشأن الشّمال السّوريّ يُصبحُ تفصيلاً إذا ما نالت تركيا عنوان القضاء على الفصائل الكُرديّة في شمال شرق سوريا.
الحِفاظ على “الإطار التّنسيقيّ”
عنوان آخر لزيارة بزشكيان للعراق أنّها تتزامن مع ظروفٍ سياسيّة داخليّة بالغة الأهميّة بالنّسبة لإيران. إذ طفَت إلى السّطح أخيراً تسريبات وتقارير عن خلافاتٍ بين رئيس الوزراء محمّد شيّاع السّودانيّ وزعيم “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكيّ على خلفيّة ما عُرِفَ بـ”اعترافات التّنصّت” على قادة من “الإطار” ومنهم المالكيّ. وهو ما أدّى إلى انقسامٍ بين فصائل وأحزاب “الإطار التنسيقيّ”، العنوان الجامع لحلفاء إيران في العراق.
يحاول بزشكيان حماية “الإطار التنسيقيّ” بصورته الحاليّة، إذ إنّ أعضاءه منقسمون بين 3 فرق:
– فريقٌ يدعم رئيس الوزراء محمد شياع السّودانيّ، ويتصدّره رئيس هيئة الحشد الشّعبيّ فالح الفيّاض ورئيس المجلس الإسلاميّ الأعلى هُمام حمّودي.
حتميّة الانسحاب من سوريا مردّه إلى الواقع اللوجستي والعمليّاتيّ للقواعد الأميركيّة في سوريا التي تعتمدُ على القواعد الأساسيّة في العراق
– فريق يدعم نوري المالكيّ ويؤيّد فرضَ شروطٍ قاسية على السّوداني مقابل عدم إجبار الحكومة على الاستقالة، ومنها تعهّده عدم خوض الانتخابات النّيابيّة المُقبلة وحلّ “تيّار الفراتيْن” الذي يرأسه السّوداني. وهذا ما يرفضه رئيس الحكومة. كما أنّ المالكي يعتقد أنّه قادرٌ على إقناع المرجعيّة بشخص السّيد علي السّيستانيّ والتيّار الصّدريّ بزعامة مقتدى الصّدر بالذّهاب نحو انتخابات نيابيّة مبكرة.
– الفريق الثّالث هو الذي يقف في الوسط بين الرّجليْن ويُمثّله نائب رئيس هيئة الحشد الشّعبيّ هادي العامريّ ورئيس تيار الحكمة عمّار الحكيم. وهذا الفريق يحاول الحفاظ على مكتسباته السّياسيّة في الحكومة والتعيينات من دون أن يقع في خلاف مع المالكي وفريقه.
يقول مصدرٌ أمنيّ عراقيّ رفيع المستوى لـ”أساس” إنّ بزشكيان بحثَ مع السّوداني وأعضاء “الإطار التنسيقي” الحدّ من الخلافات للحفاظ على تماسكِ “الإطار” في هذا التوقيت المُعقّد. إذ لا مصلحة لإيران أقلّه في الوقت الحاليّ في دخول العراق حالةً من عدم الاستقرار السّياسيّ يحرف الأنظار عن أولويّتها في المنطقة المُرتبطة بالحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة. كما أنّ إيران تعتبر أنّ السّوداني حافظَ على “مسافة أمانٍ” في العلاقة معها مثل سلفه مصطفى الكاظميّ.
زيارة بزشكيان لبغداد ثمّ إربيل مؤشّر مهمّ إلى السّياسة الخارجيّة التي تنوي طهران اتّباعها، خصوصاً لجهة تعزيز العلاقات مع دول الجوار
للمرّة الأولى.. رئيس إيراني في كردستان
لافتة كانت زيارة بزشكيان لمدينة إربيل عاصمة إقليم كردستان. إذ إنّها المرّة الأولى التي تطأ قدما رئيسٍ إيرانيّ أراضي كردستان. جاءَت الزّيارة بعد توتّراتٍ في العلاقة بين طهران وإربيل، على خلفيّة اتّهاماتٍ إيرانيّة للإقليم بإيواء مُسلّحين أكراد مُعارضين في منطقة الحدود بين إيران والإقليم التي تمتدّ على مسافة 450 كلم. والأهمّ أنّ طهران كانت تنظرُ إلى إربيل على أنّها محطّة أساسيّة للموساد الإسرائيليّ لإدارة وإطلاق عمليّات أمنيّة استهدفت الدّاخل الإيرانيّ. وهو ما دفع الحرس الثّوريّ إلى قصفِ مواقع في إربيل في كانون الثّاني الماضي زعمَ أنّها مقرّات للموساد.
زيارة بزشكيان لبغداد ثمّ إربيل مؤشّر مهمّ إلى السّياسة الخارجيّة التي تنوي طهران اتّباعها، خصوصاً لجهة تعزيز العلاقات مع دول الجوار. إذ باشرت حكومة إقليم كردستان قبل وصول بزشكيان في نقلِ مسلّحي الأكراد الإيرانيين إلى مناطق بعيدة عن الحدود مع إيران، على الرغم من اعتراضهم. وذلكَ تنفيذاً لاتّفاقاتٍ أمنيّة سابقة بين الحكومتين الإيرانيّة والعراقيّة، وبين الحكومة الإيرانيّة وحكومة إقليم كردستان العراق.
كانَ اللافت أنّ بزشكيان اجتمَع برئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس الحكومة مسرور بارزاني من دون مُترجمٍ. وباشرَ الحديث مع المسؤولين الأكراد بلسانٍ كُرديّ طلْق، علماً أنّ عادة المسؤولين الإيرانيين المُخاطبة باللغة الفارسيّة وإن كانوا يُتقنون لغاتٍ أخرى. أرادَ بزشكيان بهذه الخطوة الشّكليّة الإيحاء للمسؤولين الأكراد أنّ حكومته تريد المُضيّ بعهدٍ جديدٍ من العلاقات بعيداً عن الخلافات التي اشتدّت في عهدِ سلفه إبراهيم رئيسي.
كانَ اللافت أنّ بزشكيان اجتمَع برئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس الحكومة مسرور بارزاني من دون مُترجمٍ
كما أجرى بزشكيان لقاءً خاصّاً مع رئيس الحزب الدّيمقراطيّ الكرديّ مسعود بارزاني، حيث وجّه للأخير دعوةً لزيارة إيران. وهذه الدّعوة مثار اهتمام إذ إنّ آخر زيارة لبارزاني لإيران كانَت في 2011.
الموساد في الإقليم
إن كانَ لإيران ما يثيرُ قلقها في كردستان، فإنّ لحكومة الإقليم أيضاً ما يثير قلقها في العلاقة مع إيران، خصوصاً أنّ طهران استعملت فصائل الحشد الشّعبيّ أكثر من مرّة في السّنوات الماضية لزعزعة الاستقرار السّياسيّ والاقتصاديّ للإقليم.
يقول المصدر العراقيّ لـ”أساس” إنّ المعادلة بين طهران وإربيل باتت واضحة: “أيّ استخدامٍ للفصائل الكرديّة الإيرانيّة المُسلّحة ستُقابله زعزعة استقرار الإقليم عبر الحشد الشّعبيّ”. فكانت الزّيارة الرئاسية الإيرانيّة للإقليم بمنزلة تبريدٍ لهذه المعادلة بعد سحب المسلّحين المعارضين من الحدود مع إيران.
كما يكشف المصدر أنّ بزشكيان فاتح نيجيرفان بارزاني بقضيّة “الموساد في الإقليم”. وعلى الرغم من نفي بارزاني المزاعم الإيرانيّة في هذا الشأن، إلّا أنّه أكّد لضيفه الإيرانيّ أنّ أراضي كردستان لن تكونَ منطلقاً لأيّ عملٍ يمسّ استقرار إيران وأراضيها. وهذا يعني أنّ الجانبيْن توصّلا إلى صيغة تفاهمٍ مشترك لهذه المسألة، بحسب ما يقول المصدر.
إقرأ أيضاً: ماذا يريد نتنياهو من الضّفّة الغربيّة؟
اللافتُ أيضاً أنّ الرئيس الإيراني ختمَ زيارته للإقليم بزيارة لمدينة السليمانية حيثُ التقى بقيادات الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يرأسه بافل طالباني. وذلكَ للتأكيد على العلاقة الخاصّة التي تجمعُ إيران بالاتحاد الوطني غريم الحزب الديمقراطي في كردستان. كما هي رسالة طمأنةٍ لآل طالباني بأنّ أيّ تفاهمٍ مع آل بارزاني لن يكونَ على حسابِ العلاقة بين إيران وآل طالباني.
لمتابعة الكاتب على X: