فرنسا: حكومة على مسافة من ماكرون..؟

مدة القراءة 8 د

تتشكّل الحكومات الفرنسية في العادة وفق حالتين تحدّدهما الظروف السياسية ونتيجة الانتخابات التشريعية:

– الأولى: تتألّف من حكومة الأكثرية الفائزة في الانتخابات البرلمانية، حيث يكون رئيس الحكومة المكلّف من الجسم الرئاسي عينه، ويتبع رئيس الجمهورية مباشرة، ومن فريقه السياسي اللوجستي.

– الثانية: تسمّى حكومة المساكنة. تتحقّق عند تبلور أغلبية جديدة في الانتخابات التشريعية تكون معارضة لرئيس الجمهورية، وفريق العهد الرئاسي في الإليزيه. يتسلّم حينها رئيس الأغلبية البرلمانية الجديدة مفاتيح قصر ماتينيون. يصار بعدها إلى خلق توافق وحالات ربط نزاع من أجل تمرير المرحلة. تسمّى هذه الحالة المساكنة.

 

مشهديّة حكوميّة فرنسيّة نادرة

تعيش الإدارة الفرنسية الحالية مشهدية مغايرة هي ظاهرة فلكية دستورياً لن تتحقّق إلا نادراً. وتعكس التخبّط في الحياة السياسية وافتقاد الثقة المجتمعية الشعبوية بالمؤسّسات الدستورية. في هذه الحالة لا توجد مساكنة مباشرة، ولن تتوافر حكومة البيت الواحد المشهودة، ولن يدخل الإليزيه شخصية محسوبة على العهد ورئيسه. تتجلّى حالياً رسمة مساكنة هجينة مع شخصية سياسية، مرجعيّتها الحزبية لم تفُز في الانتخابات بشكل خاصّ. ترفضه كتلته الائتلافية الانتخابية الكبرى. لم ينخرط في حملة الجبهة الجمهورية المقصيّة الدائمة لليمين المتطرّف. هو رئيس حكومة معارض للعهد الرئاسي وسياسات ماكرون، ويعتمد على كتلته في الوقت نفسه. بناء على ذلك، لن تكون مهمّته سهلة في المطلق لأنّ الرهان الأساسي أمام ميشال بارنييه هو:

– أوّلاً: القليل من الاستقلالية الحكومية.

– ثانياً: أن يستطيع الإيفاء بما وعد به.

تعيش الإدارة الفرنسية الحالية مشهدية مغايرة هي ظاهرة فلكية دستورياً لن تتحقّق إلا نادراً. وتعكس التخبّط في الحياة السياسية وافتقاد الثقة المجتمعية الشعبوية بالمؤسّسات الدستورية

خطّة ماكرون: إقصاء اليمين المتطرّف.. وعزل اليسار الراديكالي

كانت خطّة الرئيس ماكرون الموروثة جينيّاً في الجمهورية الخامسة:

في الانتخابات: إقصاء اليمين المتطرّف من خلال كمّاشة الجبهة الوطنية الشاملة الضامنة للجمهورية، وإقفال الطريق السريع أمام وصول التجمّع الوطني إلى قصر ماتينيون الحكومي.

بعد الانتخابات: عزل اليسار الراديكالي، وإزاحة حزب فرنسا الأبيّة، وخلق بيئة خلافات داخل الجبهة الشعبية الجديدة التي تمنعهم من التوافق على مرشّح قويّ ومقبول للحكومة.

نجح في توتير الجبهة الشعبية الجديدة. لكنّه لن ينجح في فصل اليسار المعتدل كليّاً عن حزب فرنسا الأبيّة. وكرّس وجود كتلتين كبيرتين معارضتين في البرلمان عدم إمكانية تأليف أيّ حكومة إلّا عبر كتلة مركزية داخلية مؤلّفة من اليسار واليمين المعتدلين والمستقلّين. ظهر على السطح بعد الغربلة كلّ من برنار كازنوف وميشال بارنييه. لم يتمكّن الأوّل من دخول قصر ماتينيون نتيجة التزاماته مع الجبهة الشعبية، فيما تمكّن الثاني من دخوله، لا سيما أنّه يميني معتدل وطني واتّحادي. لم يشارك في الجبهة الجمهورية، خصوصاً بعد شطب كزافييه برتراند من جانب اليمين المتشدّد.

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الممسك بزمام الكلمة ومفاتيح الأحداث الجارية إلى الآن، عن عصفوره النادر، وزيره الأوّل الجديد. إنّه ميشال بارنييه

فوضى التّسمية الخلّاقة

بين حالات إنكار الديمقراطية واتّهامات سرقة نتائج الانتخابات البرلمانية، وبين حشد الدعوات إلى الإطاحة بالرئيس، والتظاهرات ضدّ انقلابات القوّة، وسردية فورات الجبهة الشعبية الجديدة، من خلال حزب فرنسا الأبيّة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الممسك بزمام الكلمة ومفاتيح الأحداث الجارية إلى الآن، عن عصفوره النادر، وزيره الأوّل الجديد. إنّه ميشال بارنييه السياسي والدبلوماسي العريق، والجمهوري القديم. كلّفه تأليف الحكومة الجديدة، تحت صلية اليمين المتطرّف بشكل عامّ، وسندان حزب التجمّع الوطني الداعي إلى الاستفتاءات المفخّخة وتربّصه به على نحو خاصّ.

بحث الرئيس الفرنسي ماكرون عن شخصية مناورة بطريقة مهذّبة تجمع قدر الإمكان بين متناقضات الأطياف السياسية الفرنسية وتكون:

– مستمعة جيّدة.

– تحترم تنوّع القوى السياسية المادّية.

– لا تحبّ الفئوية وتعتبرها علامة ضعف.

يوجد في موضوع تشكيل الحكومة الفرنسية ما يعرف أيضاً بـ”الحيّز الخاص”. حيث الرئيس له حقّ قبول أو رفض أسماء وزراء حقائب الخارجية، الداخلية والدفاع

بارنييه المعارض أم الماكرونيّ؟

أُتبع ميشال بارنييه على الفور ومنذ لحظة تعيينه من قبل الجبهة الشعبية الجديدة بالرئيس ماكرون. أُلحق كذلك في المقابل بزعيمة التجمّع الوطني مارين لوبان الفرار التنفيذي إذ كان محترماً من قبل حزب التجمّع الوطني، وقريباً جداً من برنامج اليمين المتطرّف، خاصة من ناحية ملفّ الهجرة. يعدّ ذلك أوّل السهام المصوّبة نحو حكومته، مع إعلان فرنسا الأبيّة طرح الثقة به.

يوجد في موضوع تشكيل الحكومة الفرنسية ما يعرف أيضاً بـ”الحيّز الخاص Domaine reserver”. حيث الرئيس له حقّ قبول أو رفض أسماء وزراء حقائب الخارجية، الداخلية والدفاع. فكيف سيتمّ اختيار هؤلاء الأشخاص؟ وهل تمرّ تسويات الأمور بسهولة؟

فقدان اليسار الفرنسيّ الواقعيّة في الحكم وثبات اليمين

فقدَ اليسار الحالي في فرنسا واقعية السلطة والحكم وثقافتهما. بدأ بالانحدار بعد الرئيس ميتران. كان عليه أن يؤسّس مداميك حكومة يسارية تأخذ في الاعتبار أهمّية التسوية والواقعية السياسية. لم يستطع اليسار أن يكون فريقاً حكومياً فاعلاً. ظلّ ثائراً فوضوياً من أجل الثورة والحركيات المفرطة غير المفيدة. أمعن في حرب المصطلحات الإعلامية والألفاظ الفارغة. اتّهم الإليزيه بسرقة الانتخابات من الشعب، ودعا إلى تعبئة وتظاهرات ضدّ انقلاب القوّة. وكأنّه قد تحوّل إلى ثائر على الدستور والدولة، فيما برهن اليمين عن أنّه الأثبت سياسياً في الفترة الأخيرة، على الرغم من خطورته الكبيرة على الجمهورية.

ينتظر الرئيس ماكرون من “انتحاري الإليزيه الجديد” ميشال بارنييه توفير الظروف المستقرة اللازمة في حدودها الدنيا من خلال إعطاء المجال لإطلاق لغات الحوار والتفاهم والالتقاء

المطلوب من انتحاريّ الإليزيه الجديد

ينتظر الرئيس ماكرون من “انتحاري الإليزيه الجديد” ميشال بارنييه توفير الظروف المستقرة اللازمة في حدودها الدنيا من خلال إعطاء المجال لإطلاق لغات الحوار والتفاهم والالتقاء وربط النزاع في الساحة الباريسية على أوسع نطاق ممكن.

تتركّز أولويّاته الإجرائية على قول الحقيقة المجرّدة في المواضيع المالية والبيئية. تحدّث عنها في حفل التسلّم والتسليم من سلفه غبريال أتال. تنحصر خطواته الأولى في قضايا التعليم المدرسيّ وملفّات الأمن والهجرة والعمل والقدرة الشرائية. تطرّق إلى الخدمات العامة. ساير ودغدغ في مصطلحاته اليمين غير المشارك في الحكومة. هو سيراقبها ويفخّخها. هذا ما يجعل منه بيضة القبّان في الجمعية الوطنية، من ناحية استمرارية الحكومة أو عدمها.

يريد بارنييه أن يأمن شرّ اليمين التشريعي وعدم استفزازه. يعوّل ماكرون هنا على خصاله الدبلوماسية. يعتبره وسيطاً مخضرماً، وبارعاً على المستوى المحلّي الفرنسي، والقارّي الأوروبي، من أجل إنهاء أشرس أزمة سياسية في زمن الجمهورية الخامسة المعاصرة.

تجمّعت تناقضات السياسة المحلّية حول بارنييه. علق في المتاهة المرصوصة. ويتعامل مع الفخاخ المنصوبة. فإن اعتمد في تشكيلة حكومته على أصحاب الأغلبية السابقة (الحزب الرئاسي والمؤيّدين للرئيس ماكرون)، فسيتناقض هذا الأمر مع رغبة كان قد عبّر عنها، خاصة في ما يتّصل بالقطيعة مع السياسة السابقة و.وسعيه إلى “التغيير”. لا يريد أن يكون ماكرونيّاً انغماسيّاً. ووضع لذلك سقفاً سياسيّاً عالياً. يتمسّك بأنّ مهمّة الرئيس هي الرئاسة، ومهمّة الحكومة هي الحكم.

لن يسمح ماكرون بخسارة زمام المبادرة وانفلات الأمور من يده عبر هذا التعيين. وسيكون ضمناً أمام مشكلة كبرى في حال اعتمد على الماكرونيين في الحكم

مسافة عن ماكرون

يحاول بارنييه صنع مسافة له عن السياسة الماكرونية. يكمن في ذلك التحدّي الأبرز. إذ يريد الرئيس ماكرون الحفاظ على كلمته الفصل في الأمور الأساسية المتعلّقة خصوصاً بعدم الانقلاب على الإنجازات التشريعية، وأهمّها قانون التقاعد. وهو أمر قد تمّ الاتفاق عليه. فلن يسمح ماكرون بخسارة زمام المبادرة وانفلات الأمور من يده عبر هذا التعيين. وسيكون ضمناً أمام مشكلة كبرى في حال اعتمد على الماكرونيين في الحكم لأنّه سيبقى في كلّ الحالات تحت ضربات سيوف التجمّع الوطني ونيران غضب الجبهة الشعبية الجديدة.

إقرأ أيضاً: ميشال بارنييه .. حكومة على الطريقة اللبنانية..

تثار عدّة نقاط حول أساسيات المرحلة المرتقبة. فكيف سيتمكّن ميشال بارنييه من أخذ درجة المسافة، سواء من الرئيس ماكرون، أو من المعارضة، فيما سيعتمد في الأصل على نواب التجمّع الرئاسي؟ ما مدى نجاحه في ذلك؟ وهل تدنو الإدارة الفرنسية من أزمة محلّية شرسة؟

مواضيع ذات صلة

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…

فرنجيّة وجنبلاط: هل لاحت “كلمة السّرّ” الرّئاسيّة دوليّاً؟

أعلن “اللقاءُ الديمقراطي” من دارة كليمنصو تبنّي ترشيح قائد الجيش جوزف عون لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الإعلان اختراق كبير حقّقه جنبلاط للبدء بفتح الطريق أمام…