أنقرة – القاهرة: الحبّ على كلّ الجبهات

مدة القراءة 8 د

هل قدر تركيا أن لا تنام ليلة هادئة في سريرها الإقليمي بسبب الكوابيس التي توقظها وسط حالة من الذهول والقلق؟ وبسبب ضجيج الجيران في الحيّ، وتقلّبها في الفراش يميناً ويساراً وأعينها مشدودة صوب النوافذ التي تركتها مفتوحة بسبب حماوة الأجواء وسخونة الملفّات؟

لن يكفي تركيا أن تكون جاراً وشريكاً لدول الشرق الأوسط وسواحل الأبيض والأسود وإيجه، وجسراً استراتيجياً بين الشرق الذي لا يتخلّى عنها والغرب الذي لا تتخلّى عنه. فطموح التمدّد والتوسّع والانتقال إلى مناطق بعيدة باتجاه الخليج وإفريقيا وما وراء القوقاز والبلقان، تركها دائماً في مواجهة الطامحين للوجود في تلك المناطق أيضاً. فتقع المصالحة والتطبيع يوماً، والتصعيد والمواجهة يوماً آخر.

بين أهداف المحاولة التركية المصرية هذه المرّة الانتقال بالعلاقات من الحرب على كلّ الجبهات إلى الحبّ على كلّ الجبهات. تعقيدات الملفّات الإقليمية هي التي دفعت الجانبين لمراجعة المواقف والحسابات التي كانت تخدم أطرافاً أخرى بالمجّان.

لن يكفي تركيا أن تكون جاراً وشريكاً لدول الشرق الأوسط وسواحل الأبيض والأسود وإيجه، وجسراً استراتيجياً بين الشرق الذي لا يتخلّى عنها والغرب الذي لا تتخلّى عنه

تركيا – مصر – سوريا: ضدّ إسرائيل

في التاسع من أيلول 2020، كان وزير الخارجية المصري سامح شكري يردّد أنّ “الممارسات والتدخّلات التركية السافرة في العديد من الدول العربية تمثّل أهمّ التهديدات المُستجدّة التي تواجه الأمن القومي العربي”، مشدّداً على “الحاجة إلى سياسة عربية موحّدة وحازمة لردع ممارسات أنقرة “.

في التاريخ نفسه، كانت اللجنة العربية الوزارية المعنيّة بمتابعة التدخّلات التركية في الشؤون الداخلية للدول العربية، والمكوّنة من مصر والعراق والإمارات والبحرين والسعودية والأمين العامّ لجامعة الدول العربية، تؤكّد “عدم شرعية الوجود العسكري التركي في الدول العربية وضرورة سحب أنقرة لجميع قوّاتها دون قيد أو شرط”. وتدين كلّ أشكال التدخّل في الشؤون العربية، وخاصة في سوريا والعراق. وكانت الخارجية التركية تردّ أنّ “تلك القرارات لا تحظى بتأييد من الشعوب العربية ولذلك لا تُؤخذ على محمل الجدّ”.

في السابع من أيلول 2024، وقف الرئيس التركي أمام قواعده الشعبية ليعلن أنّ تركيا تعدّ لبناء خطّ إقليمي يجمع مصر وسوريا ضدّ التهديد التوسّعي المتزايد لإسرائيل. الحديث عن التنسيق مع سوريا يتطلّب أوّلاً الحديث مع قياداتها السياسية ومساعدتها على استرداد سيطرتها على كامل أراضي البلاد أم الرئيس التركي يفكّر في أمر آخر؟

في أيلول 2024 تتّضح أكثر فأكثر صورة استمرارية التوتّر التركي الأميركي في أكثر من مكان ولأكثر من سبب على حساب التقارب التركي الروسي والتركي الصيني

 بعد يومين وفي التاسع من أيلول، لم تعرقل دمشق رغبة الدول العربية باستضافة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وإنهاء أعمال “اللجنة الوزارية العربية المعنيّة بالتدخّلات التركية في الدول العربية”، فما هو الثمن؟ حديث إردوغان قبل أيام عن محور ثلاثي تركي مصري سوري إقليمي أم انتظار وساطة عربية لعقد لقاء بين وزيري خارجية البلدين في الغرفة الخلفيّة للمؤتمر أم تعهّد عربي بدعم خطط تسريع القمّة التركية السورية بين إردوغان والأسد؟

في آب 2014 كان إردوغان يردّ على الانتقادات الموجّهة له في اختيار أحمد داوود أوغلو على رأس الحزب: إنّنا جميعاً نتحرّك بناء على مصالح الحزب وتطلّعاته ولا حسابات أو منافع شخصية أو فردية. وكان داوود أوغلو يقول إنّ تركيا تخلّت عن عقليّتها القديمة، وتعتمد أساليب ولغة جديدة في إدارة شؤونها تلبّي أحلام ومطالب الشعب التركي.

في أيلول 2024 تتّضح أكثر فأكثر صورة استمرارية التوتّر التركي الأميركي في أكثر من مكان ولأكثر من سبب على حساب التقارب التركي الروسي والتركي الصيني. لكنّ الواضح أيضاً هو أنّ أنقرة قدّمت مسائل تقاربها وانفتاحها على العالم العربي على مسألة انفتاحها على الكثيرين. حصّة القاهرة هنا كانت تراجع القيادات التركية عن سياسة محاولة إضعاف مصر في الإقليم أو محاولة تحييدها في ملفّات استراتيجية تعنيهما، بعدما سارت الأمور بعكس ما تشتهيه الرياح التركية.

دفعت حكومة العدالة والتنمية في الفترة الواقعة بين 2011 و2019 ثمن مواقفها وتقديرات سياساتها العربية والإقليمية الخاطئة. بعد هذا التاريخ بدأت مرحلة مراجعة المواقف والسياسات التي قابلتها ليونة وانفتاح خليجي تبعتهما المحادثات الاستكشافية مع مصر التي عبّدت طريق الوصول إلى ما هي عليه الأمور اليوم، منهية مرحلة الرهان على “العزلة الثمينة” التي حمّلت تركيا أعباء مكلفة.

دفعت حكومة العدالة والتنمية في الفترة الواقعة بين 2011 و2019 ثمن مواقفها وتقديرات سياساتها العربية والإقليمية الخاطئة

السيسي.. وغضب أوغلو

تغريدة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عند وصوله إلى العاصمة التركية قبل أسبوع، ثمّ البيان المشترك الصادر عن البلدين، وما سمعناه خلال المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين، إلى جانب حجم ومحتوى الاتفاقيات الموقّعة بين الطرفين… كلّها مؤشّرات تؤكّد أنّ اللاطبيعي في العلاقات التركية المصرية سيكثر ويزيد.

خَرَقَ إردوغان في أنقرة البروتوكول الرسمي المتعارف عليه مرّتين في الاستقبال والوداع. وهو ما أغضب “الخوجا” أحمد داوود أوغلو الذي طرح خلال فترة وجوده في الخارجية والحكومة، نهجاً وأسلوباً مغايرين في التفكير والعمل يقومان على وضع سياسة خارجية متعدّدة الجوانب، تعيد تعريف مصطلح “الجسر” في قاموس السياسة الخارجية التركية، وتبني “نظرية الدومينو” في الشرق الأوسط. التي تقوم على أنّ أحداثاً ستقع وستحمل معها تداعيات تؤدّي إلى وقوع أحداث أخرى أكبر.

ربّما كان داوود أوغلو محقّاً في بعض تقديراته، لكنّ العقبة الكبرى التي واجهته كانت الذهاب وراء حلم تصفير المشاكل قبل العمل على تصغيرها.

ربما أخطأ داوود أوغلو في المبالغة بالرهان على مسار “ثورات الربيع العربي” ومستقبلها. وفي تمسّكه بمواقفه حيال ما يجري، على الرغم من تغيّر المشهد، وانقلاب المعادلات والتحالفات. لكنّه ليس وحده من ورّط أنقرة في ملفّات إقليمية باعدت بين تركيا ومصر. حصّة أوباما في الرهان على حراك “الربيع العربي” وما سيوفّره لتركيا في المنطقة بحسب التقديرات والنصائح الأميركية كانت كبيرة أيضاً.

في آب 2014 كان إردوغان يردّ على الانتقادات الموجّهة له في اختيار أحمد داوود أوغلو على رأس الحزب: إنّنا جميعاً نتحرّك بناء على مصالح الحزب وتطلّعاته

إردوغان يبني حلفاً ضدّ إسرائيل؟

لكنّنا نعرف اليوم أنّه ما إن غادر الرئيس المصري العاصمة التركية، حتى توجّه إبراهيم كالن رئيس جهاز الاستخبارات التركي إلى العاصمة الليبية. وتوجّه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة. ليعلن من هناك أنّ النظام العالمي فشل في منع الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وأنّه حان وقت الاتّحاد وإظهار التضامن للدفاع عن شعوبنا وعن كرامتنا، وأنّ أولئك الذين يواصلون دعم نتنياهو هم متواطئون معه وسوف تتمّ محاسبتهم أيضاً.

 سيكون الحراك التركي المصري مضاعفاً في الأسابيع المقبلة ليس فقط بهدف إنهاء مرحلة كان فيها الكثير من التصعيد والتشدّد في المواقف والبيانات التركية العربية، بل من أجل سدّ الفراغ الاستراتيجي في العلاقات الذي حاول البعض استغلاله على حسابهما في الإقليم.

لا أحد في تركيا يتوقّع أن تتخلّى القاهرة عن تقاربها وانفتاحها على اليونان وقبرص اليونانية في العقد الأخير. لكنّ الرهان هو على تفاهمات تركية مصرية بحريّة في شرق المتوسط تسرّع استخراج ونقل الغاز المصري إلى أوروبا. لا بدّ لوساطة تركية في إفريقيا أن تقابلها وساطة مصرية في ملفّات شرق المتوسط والأزمة القبرصية حتى لو لم تكن هذه الملفّات موضوع الساعة بعد.

 سيكون الحراك التركي المصري مضاعفاً في الأسابيع المقبلة من أجل سدّ الفراغ الاستراتيجي في العلاقات الذي حاول البعض استغلاله

هاكان فيدان في ضيافة العرب

عام 2011 كان إردوغان أمام القمّة العربية. بعد 13 عاماً هاكان فيدان في قمّة وزراء الخارجية العرب منهياً سنوات طويلة من التباعد والجفاء. دعوة الوزير التركي تحمل معها أكثر من مدلول ورسالة، خصوصاً أنّها تأتي بعد أيام قليلة على زيارة الرئيس المصري للعاصمة التركية. لولا الانفتاح التركي المصري الذي كان شرطاً عربياً أساسيّاً في أيّ حوار جديد مع أنقرة لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم ولما كان فيدان موجوداً هناك.

ترى تقديرات كثيرة أنّ التقاطعات الأفروآسيوية والأوروآسيوية التي تقرّب تركيا من مصر وتجعلهما في مركز الثقل الإقليمي أمام الخطّين، هي بين الأسباب الرئيسية التي قادت القيادات في البلدين لمراجعة علاقاتهما في الإقليم. سيناريوهات اقتراب المواجهات التجارية بين أميركا وروسيا والصين والهند هي أيضاً في طليعة هذه الدوافع. هي حاجة البلدين إلى تجاوز خلافاتهما الثنائية والإقليمية وحاجة المنطقة إلى التعاون التركي المصري بهدف المساهمة في بناء منظومة تعاون إقليمي تحمل التهدئة والاستقرار وتفتح الأبواب أمام آليّات تنسيق سياسي وأمنيّ واقتصادي جديدة.

إقرأ أيضاً: إسقاط المسيّرة التركيّة في كركوك: أصابع إيران؟

على الغاضبين والقلقين والمتضرّرين أن يبذلوا جهوداً إضافية أكبر وهم يحاولون عرقلة هذا التقارب، فلا أحد في أنقرة أو القاهرة يريد أن يعود إلى أجواء ما قبل عشر سنوات.

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

بعد الحرب.. هل من دروس تعلّمناها؟

“لو كنت تدرين ما ألقاه من شجنِ… لكنتِ أرفق من آسى ومن صفحَ غداة لوّحت بالآمال باسمة… لان الذي ثار وانقاد الذي جمحَ فالروض مهما…

هل يستمع الأسد إلى النّصائح العربيّة؟

هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية…

إسرائيل وتركيا وروسيا تستعدّ لـ”عاصفة ترامب”؟

تتسارع الأحداث مع اقتراب 20 كانون الثاني، يوم تنصيب دونالد ترامب الرئيس الـ47 للولايات المتحدة. وبدأت بعض الدول تتموضع في محاولة لتثبيت وقائع على الأرض،…

إيران والترويكا: حوار الوقت الضّائع

كان لافتاً القرار الإيراني بالذهاب إلى عقد جلسة حوار مع الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في العاصمة السويسرية جنيف، على الرغم من الموقف التصعيدي الذي…