نقاش الحزب لشرعيته: إسناد وإشغال

مدة القراءة 7 د

أفرجت “نصوص” صدرت عن بعض واجهات الحزب عن أعراض إيحاء باستعداد لنقاش مسألة “السلاح” مقابل فتح ملفّ الدستور والنظام السياسي في لبنان. بدا من تلك الدعوات توسّل لـ “صفقة” معقّدة لا ملامح لها تجعل لهذا السلاح ثمناً، وربّما يكون باهظاً، مقابل صيغة لا يبدو أنّها ترقى إلى مستوى التخلّي عن هذه الأصول العسكرية للدولة وجيشها الوطني.

في النصوص التي أفرج عنها الحزب عارضاً مناقشة سلاحه مقابل فتح ملفّ تعديلات النظام السياسي، سواء كانت منشورة أو مناظرات أو تصريحات، نجدُ سعياً مصطنعاً إلى جرّ البلد وطبقته السياسية، خصوصاً المعارضة للحزب وأجنداته، باتجاه ما هو خارج سياق الحرب الحالية التي قرّر الحزب مباشرتها، منذ 8 تشرين الأول 2023، والتي شنّها وحدَه، من دون استشارة اللبنانيين، ومن وراء ظهر مؤسّسات البلد الدستورية والعسكرية وطبقته السياسية التي يحاول الحزب استدراجها للجدل.

أفرجت “نصوص” صدرت عن بعض واجهات الحزب عن أعراض إيحاء باستعداد لنقاش مسألة “السلاح” مقابل فتح ملفّ الدستور والنظام السياسي في لبنان

المفارقة أنّ في البلد، لا سيما من صفوف معارضي الحزب، مَن تبرّع بالانخراط في ما أراده الحزب أن يكون جدلاً. وقاد الأمر إلى الاستسلام لشرك نُصب للمتجادلين تهبط به معضلة “السلاح”، المتّهم (من بين آثام كبرى أوصلت البلد إلى هذا الدرك) باغتيال رفيق الحريري ورفاقه، مروراً بواقعة “7 أيار” 2008، وانتهاء من دون نهاية بالحرب الراهنة، إلى مستوى اعتباره وجهة نظر ومن عاديّات وجود الأمم وليس نقيضاً بديهياً وعضوياً لأيّ عمران.

عروض الحزب… تحت سطوة السّلاح

يُراد لكلام الحزب، الهادئ والرصين والتوّاق لمعادلة تُخرج البلد من كارثته، أن يجد في البلد من يتلقّفه بصفته “نعمة” مترجّلة لم تكن في الحسبان. اعتمدت “أقلام” الحزب الحنونة على واقع مستمرّ يؤكّد تفوّق الحزب على كلّ اللبنانيين، بامتلاكه قوةً نارية تملأ أخبارها التقارير الدولية وتشغل مقاربتها عواصم الدنيا ومبعوثيها. وفيما ترشح من سطور ما يُقترح رغبة في الاعتراف لهذا السلاح (الذي بات يوصف بأنّه “وجودي” لا نقاش في ديمومته) بشرعية تستحقّ فتح كتاب الشرعيات جميعها في لبنان… فإنّ عروض الحزب والردّ على هذه العروض تجري تحت سطوة هذا السلاح وبرعايته وفي ظلّ جبروته.

أثبت الحزب منذ انقلابه على وظيفة “المقاومة” وجعلها وجهة نظر تتمدّد من داخل لبنان إلى داخل سوريا ودواخل أخرى، أنّه غير معنيّ برأي، أيّ رأي، يدافع عن فكرة لبنان. حتى إنّ مفهوم “الدولة” ليس من صميم أدبيّاته ما دام هو والفصائل الموالية لإيران داخل فضاءات “العواصم الأربع” التي أعلنت طهران إسقاطها قبل سنوات، يمتهنون “اللادولة” سيرة نهائية خدمة لدولة وحيدة هي إيران. وإذا ما أراد الحزب لسلاحه أن ينفخ مستوى دويلته إلى مستوى دولة مكتملة الأوصاف، معترف بها وبأمرها الواقع داخل حواشي الدستور وبتوقيع اللبنانيين، فإنّه لا شيء في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، خصوصاً بعد ما أوقعته “حرب المشاغلة والإسناد” في صفوف الحزب، ما يمكن أن يوحي بأنّ البلد بات أعجز من مقاومة إغراءات نصوص الحزب وعروضه.

يُراد لكلام الحزب، الهادئ والرصين والتوّاق لمعادلة تُخرج البلد من كارثته، أن يجد في البلد من يتلقّفه بصفته “نعمة” مترجّلة لم تكن في الحسبان

على الأقلّ، يمكن استنتاج أنّ لجوء الحزب إلى مواهب مفكّريه ومثقّفيه وواجهاته السياسية لتسويق معادلة جديدة في البلد، يعني أنّه بات مقتنعاً، بالتجربة والبرهان، أنّ لسلاحه حدود قوّة، وفائضها لا يغيّر من أصول اللعبة في البلد. ولو كان الحزب قادراً، على ما وعد أمينه العامّ قبل عقود، بجعل البلد جمهورية إسلامية تابعة للجمهورية الإسلامية في إيران، لَفعلَ. وحتى في حالة الزهوّ البليد الذي تمّ التعبير عنه إثر تنفيذ “اليوم المجيد” في أيار 2008، فإنّ في المقلب الآخر لهذا الحدث، ثبت حدود فعل هذا السلاح وخطورة ردود الفعل اللبنانية قبل الدولية على هذا السلاح نفسه.

نقاش التّعايش… مع السّلاح

يستدرج الحزب بسلاحه، المستتر داخل مدن لبنان وقراه، والذي يفرض وهجه على واقع البلد البائس في أمنه وأمانه واقتصاده واستقراره وإرهاصات مستقبله، جولة جديدة من الأخذ والردّ، والحوار والنقاش، ليس بشأن مستقبل لبنان بل مستقبل سلاحه. فإذا ما يجري التلميح بالسلاح ثمناً للمكاسب، فكيف يمكن تخيّل التخلّي عن هذا المبرّر الثمين الذي يأتي بالمكاسب. لسان حال الحزب، حتى من داخل أبجديات نصوصه الجديدة المطروحة في الأسواق، يقول: هذا سلاحي فلنناقش كيف نتعايش في ظلاله.

سبق لعبقرية ما أن تفتّقت عن ورشة للبحث عن “استراتيجية دفاعية”. بدا للبعض أنّ في ذلك العنوان ما بإمكانه إفحام أصحاب السلاح بفكرة أن يكونوا وسلاحهم جزءاً من قواعد دفاع عن البلد. لا شيء اسمه “استراتيجية دفاعية” في الولايات المتحدة أو موريتانيا أو الأردن أو كولومبيا أو أيّ دولة في هذا العالم. فلو سألت طفلاً كيف نحمي بلداً لأجابك ببناء جيش قويّ ينتسب إليه جنود من كلّ أنحاء البلد. ولو سألت شابّاً متنوّراً لقال لك إنّ البلد يحتاج إلى جانب ذلك إلى سياسة خارجية تنسج علاقات مع هذا العالم توفّر مظلّات وقاية ورعاية. وإذا سألت عالماً عارفاً بأصول الدفاع عن البلدان لقال لك إنّ حماية البلد تحتاج أيضاً إلى سياسة بيتية داخلية تحقّق وحدة واستقراراً هما الأساس في وحدة البلد ومناعته.

لجوء الحزب إلى مواهب مفكّريه ومثقّفيه وواجهاته السياسية لتسويق معادلة جديدة في البلد، يعني أنّه بات مقتنعاً، أنّ لسلاحه حدود قوّة

استطلاع سبل القفز عن الطّائف

أيّاً تكن الفلسفة المنتهجة، فإنّ الدفاع عن أيّ بلد يقوم على عاتق جيشه الذي تخضع إمرته للدولة التي تمثّل مواطنيها. وقد يجوز للجيش أن يختار استراتيجيات تقنية في تشكيلاته التي قد تشمل قطاعات أهلية (ميليشياوية)، على أن تكون في تسليحها وتراتبيّتها ومواردها المالية خاضعة لجيش يخضع لدولته. وأيّاً تكن المداخل التي يسعى الحزب إلى استحداثها للعبور إلى الدستور، فإنّ ذلك لا يتمّ إلا بقوّة القهر، أي الانقلابات والسلاح، أو من خلال مؤسّسات لبنان وبرلمانه وانتخاباته، أي من خلال الدستور نفسه. وقد يجوز للحزب الذي خبر محدودية مفاعيل “يومه المجيد” تسليط “النصوص” لاستطلاع سبل القفز على “الطائف”، مقترحاً بخجل مكانةً ومكاناً له ولسلاحه، لكن من غير الجائز أن يقبل المجادلون جدلاً يجري بحضور السلاح ومن أجله.

سبق للنقاش الداخلي الذي انخرطت فيه كلّ قوى البلد السياسية، بما في ذلك الحزب، أن أنتج “إعلان بعبدا” عام 2012. ومن دون التذكير بما حلّ بهذا الإعلان من مصير مخزٍ، فإنّ الأمانة تقتضي التأكيد أن لا أحد في لبنان والعالم صدّق كلمة من هذا الإعلان وآمن بالتزام الحزب به. فصاحب الحلّ والعقد الذي يملك قرار السلم والحرب له قوّة نقض أيّ حلّ أو أيّ عقد. يأتي عرض الحزب هذه الأيام ليناقش “ما بعد السلاح” بحيث بات السلاح أصلاً لا يناقش أصله على أن يطال النقاش المفتوح المقترح كلّ ما طاب من فروع.

إقرأ أيضاً: صفقات أميركا مع إيران: العراق يتقدّم على لبنان

يعرف الحزب أنّ تغيير قواعد اللعب في أيّ دولة، وفي لبنان خصوصاً، لا يحصل إلا بمظلّة خارجية، تُنصب بتوافق إقليمي دولي، أو بقوّة موازين القوى. وفي غياب ذلك التوافق من جهة، وعدم نضوج اختلال نهائي حاسم في موازين القوى من جهة ثانية، فإنّ الحزب يعمل على تقطيع الوقت بانتظار توفّر ظروف خارجية، تبدو بعيدة، تتيح له بيع اللبنانيين سلاحاً وكثيراً من الطموحات والأماني.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…