منذ تنفيذ الحزب لعملية الردّ على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت، اندفع تحرّك سياسي ودبلوماسي من قبل الدول المعنيّة بلبنان والحريصة على عدم اندلاع حرب إقليمية. انطلق التحرّك الدبلوماسي من جهات غربية عديدة كانت قد تبلّغت بشكل واضح أنّ إيران والحزب لا يريدان الحرب ولا التصعيد، وما يريدانه فقط هو وقف إطلاق النار في غزة. على هذا الأساس تفعّلت الحركة الدبلوماسية داخل لبنان وخارجه بحثاً عن إمكانية إرساء اتّفاقات وتحضير الأرضية لإنتاج تسوية سياسية. وضمن هذا الإطار تحرّك بعض السفراء على خطّ محاولة إنجاز الانتخابات الرئاسية على الرغم من أنّ الصورة لا تزال ضبابية والظروف غير ناضجة. ولكنّ هناك قراءة دولية هي التي فتحت الطريق أمام هذا التحرّك بمعزل عن ضمانة الوصول إلى نتيجة.
في ظلال الحرب الإسرائيلية المستمرّة على غزة، لم يتوقّف التواصل الإيراني الأميركي. قبل تنفيذ الحزب لردّه وبعده، حصل تبادل للرسائل بشكل مباشر وغير مباشر بين طهران وواشنطن، عنوانها أنّه في حال لم يتمّ الوصول إلى وقف لإطلاق النار في غزة، يجب احتواء التصعيد على الجبهات الأخرى، وخصوصاً جبهة لبنان، وإبقاؤه محصوراً ضمن نطاق جغرافي محدّد ووفق قواعد الاشتباك السابقة. وممّا اتُّفق عليه بين طهران وواشنطن هو أن تلجأ إيران إلى تأجيل ردّها على اغتيال إسماعيل هنية إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في إطار التماهي مع مساعي إنجاح المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية.
توازت المفاوضات السياسية مع المفاوضات بالنار أو التهديد بتوسيع النار. وعلى وقع هذا التفاوض أعاد سفراء الخماسية تجديد تحرّكاتهم
تسوية تحمي البلاد
ما قرأته القوى الدولية المعنيّة بلبنان، ولا سيما بعد موقف الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصر الله حول حماية الصواريخ البالستية والدقيقة، والمقصود هنا إبعادها من جنوب نهر الليطاني، عزّز وجهة نظر ترى أنّ الحزب يبحث عن مخرج، وهو غير قادر على المضيّ قدماً في المواجهة كي لا تندلع الحرب، وغير قادر على التراجع عن جبهة الإسناد. التقطت تلك القوى اللحظة في محاولة لإعادة تفعيل المسار السياسي والدبلوماسي، ولكن هذه المرّة على قاعدة أنّ تسوية سياسية ملائمة في لبنان يمكنها أن تشكّل حصناً لحماية البلاد من تدهور الأوضاع العسكرية، ويمكن للرئيس الجديد أن يساهم في العمل على معالجة الوضع الحدودي، بدءاً من خفض التصعيد، وصولاً إلى البحث عن فرص إعادة الإعمار وترسيم الحدود.
شهدت الكواليس السياسية نقاشات متعدّدة حول أهمية انتخاب رئيس لا يكون مستفزّاً للحزب ويكون موثوقاً من قبله، وذلك بهدف ترييحه وطمأنته في مجال العمل على معالجة الوضع الحدودي. كذلك لم تغب عن النقاشات مسألة ضرورة انتخاب رئيس يحظى بموافقة القوى والأطراف الأخرى التي تحتاج أيضاً إلى الاطمئنان إلى عدم منح الحزب مكاسب سياسية لقاء أيّ تسوية حدودية، علماً أنّ المبعوث الأميركي آموس هوكستين ناقش في زيارته الأخيرة للبنان مع رئيس مجلس النواب نبيه بري مسألة انتخاب الرئيس، وبحسب ما تقول مصادر متابعة فإن هوكستين نقل إلى بري رسالة واضحة مفادها: “أنقل إليك رسالة من الرئيس جو بايدن بأهمّية العمل مع الشركاء والحلفاء في المنطقة للوصول إلى تسوية، وأنّه يجب أن تكون المملكة العربية السعودية راضية عن هذه التسوية، لأنّه لا بدّ من تحفيز السعودية على العودة إلى الاهتمام المباشر والمكثّف بالملفّ اللبناني.”
الحزب الذي لا يريد الحرب يريد فرصة أو يداً ممدودة لالتقاطها في سبيل تجنّب أيّ تصعيد والالتفاف على أيّ فخّ إسرائيلي
ردّ بري على الرسالة بأحسن منها، إذ أوضح أنّه حريص منذ اليوم الأوّل على دور السعودية في لبنان، وأن لا أحد يريد الذهاب إلى إبرام تسوية تغضبها، وأنّه كان قد أبلغ سابقاً السفير السعودي وليد البخاري بجدّية هذا المضمون. يتقاطع هذا الكلام مع كلام إيراني آخر تمّ نقله سابقاً إلى بري والحزب بأنّ طهران لا تريد أيّ تصادم مع السعودية في لبنان أو حول الملفّ اللبناني، وأنّه يجب عدم إبرام تسوية تتعارض مع توجّهات الرياض في بيروت.
في الموازاة، كان يتمّ نقل رسائل متعدّدة من قبل الدول المعنية بلبنان حول مخاطر تصعيد الصراع العسكري، وأنّ تل أبيب تمتلك بنك أهداف واسعاً جدّاً يطال مختلف المناطق. تضمّنت الرسائل تهديدات بإمكانية إقدام الإسرائيليين على تنفيذ عمليات جوّية واسعة وسريعة ومكثّفة باتجاه مواقع ومخازن للحزب، وتمّ وضع بعض المسؤولين اللبنانيين في صورة بنك الأهداف هذا، وذلك في سبيل استخدامه بالإطار التفاوضي لمنع التصعيد، لا سيما أنّ إسرائيل كانت قد مرّرت أكثر من رسالة فعليّة حول التزامها بنك الأهداف، أوّلاً من خلال استهداف مخزن الأسلحة والصواريخ في عدلون، ثانياً من خلال استهداف أحد مخازن الصواريخ الأساسية في البقاع، وثالثاً من خلال العملية الاستباقية التي شاركت فيها 100 طائرة حربية لضرب منصّات صواريخ الحزب.
اللافت هنا هو أنّه بعد هذه العملية وردّ الحزب تراجعت كثيراً عمليات إطلاق الصواريخ المضادّة للدروع والكاتيوشا لأيّام لأنّ المنصّات تعرّضت لأضرار كبيرة واستغرق الحزب وقتاً في إعادة إعداد منصّات جديدة وتجهيزها. لذلك تركّزت في الأيام الماضية عمليّات إطلاق المسيّرات.
في ظلال الحرب الإسرائيلية المستمرّة على غزة، لم يتوقّف التواصل الإيراني الأميركي. قبل تنفيذ الحزب لردّه وبعده
التوازن بين المفاوضات والتّهديد
توازت المفاوضات السياسية مع المفاوضات بالنار أو التهديد بتوسيع النار. وعلى وقع هذا التفاوض أعاد سفراء الخماسية تجديد تحرّكاتهم بناء على رسائل تولّى الفرنسيون أيضاً نقلها، علماً أنّ الفرنسيين هم الذين طلبوا اجتماعاً للمبعوث جان إيف لودريان في الرياض، وذلك في إطار تجديد عمل اللجنة الخماسية الذي يفترض أن يُستأنف من دارة السفير السعودي في الخامس عشر من أيلول.
قبل ذلك، جاءت حركة السفير المصري الذي أعلن الاستعداد لاستئناف العمل. في الإطار نفسه أُدرجت جولة السفير الفرنسي هيرفي ماغرو. وليس بعيداً جاءت زيارة السفير السعودي وليد البخاري الاستطلاعية لعين التينة ولقاؤه برئيس المجلس. في اللقاء كان بري واضحاً أيضاً حول الحرص على دور المملكة، والاستعداد لإنتاج تسوية سياسية مرضية لكلّ القوى. وقد طلب من السفير السعودي المساعدة في سبيل إنضاج التشاور أو الحوار لعقد جلسات مفتوحة متتالية لإنجاز الاستحقاق.
إقرأ أيضاً: حراك الخماسية إشارات ومتغيّرات دولية..
كذلك ينتظر لبنان المزيد من التحرّكات الدبلوماسية، لا سيما بعد عودة السفير السعودي من الرياض، وبعد عودة السفيرة الأميركية والسفير القطري من إجازتَيهما، وسط معلومات تتحدّث عن تحرّكات مجتمعة وتحرّكات منفردة للسفراء. كلّ ما يجري هو في سياق تحضير الأرضية وليس بالضرورة الوصول إلى إنجاز في الانتخابات الرئاسية، لكنّ هناك فكرة لا تغيب عن بال الدبلوماسيين والمسؤولين الدوليين، وهي أنّ الحزب الذي لا يريد الحرب يريد فرصة أو يداً ممدودة لالتقاطها في سبيل تجنّب أيّ تصعيد والالتفاف على أيّ فخّ إسرائيلي، وذلك لا بدّ أن يستدرج نقاشات كثيرة وفتح ملفّات عديدة عالقة في إطار البحث عن اليوم التالي للحرب.