تتأسّس العقيدة الوجودية لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية على عقدة العلاقة مع الولايات المتحدة. كُتب الكثير عن تسهيل واشنطن وحلفائها إزالة حكم الشاه، محمد رضا بهلوي، وإقامة نظام إسلامي بديل عام 1979. جرى في سياق الأمر اكتشاف روح الله الخميني في باريس فأفردت له صحيفة لوموند الفرنسية مقابلة شاملة على منوال ما أفردت له BBCفي لندن. كان مطلوباً على عجل استبدال نظام حليف بنظام يكون ندّاً للاتّحاد السوفيتي “الملحد” في زمن الحرب الباردة.
أدرك الخميني باكراً حقيقة ظروف عودته إلى بلاده ووصوله إلى السلطة داخل المشهد الدولي آنذاك. أدرك أيضاً أنّ استمرار نظامه رهن مزاج الغرب لا الشرق، وأنّ بقاء هذا النظام يتطلّب فتح صراع دائم معه. بقي الأمل معقوداً على إبرام اتفاق ترعاه واشنطن يضمن حماية “الجمهورية” والقبول بنظامها “الثوري” الديني. ولم تتردّد طهران في التعبير عن وجود الاستعداد للتواطؤ والتقاطع، ليس ابتداء من “إيران غيت” عام 1985، وليس انتهاء بالشراكة في إسقاط نظام طالبان في أفغانستان عام 2001 ونظام صدام حسين في العراق عام 2003.
العلاقة “البقائيّة” الأميركيّة الإيرانيّة
وفق هذه العلاقة “البقائية”، فإنّ الحدث الأميركي هو حدث إيراني بامتياز، وما ستذهب إليه الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني المقبل هو موعد تستعدّ له طهران بجدّية، بمعنى العمل على أن تكون جزءاً من سياقاته وعاملاً مرجّحاً لفوز هذا على ذاك. ويمكن هنا فهم تحذير مجتمع المخابرات الأميركية من هجمات سيبرانية إيرانية استهدفت حملتَي المرشّحين، الجمهوري والديمقراطي، بما يسمح لطهران بأن تكون حاضرة لإحداث “فوضى”، حسب تقويم أميركي، تعظّم لأيّ رئيس محتمل قوّة إيران وقدراتها التخريبية.
تستعدّ إيران للتعامل مع كلّ خيارات الناخبين الأميركيين. تلوّح دون كلل بمواهب الشراكة في نزع فتائل في الشرق الأوسط ساهمت في زرعها
لا تختلف تلك “المدرسة” عمّا هو متعارف عليه في المنطقة في ما يسمّى “سياسة خارجية” برعاية الوليّ الفقيه. والهدف هو إقناع من يهمّهم الأمر، في المنطقة والعالم، بقبول “الأمر الواقع” لإيران درءاً لما تمتلكه من مواهب تخريب جرى عرضها في “العواصم الأربع” التي سبق أن تباهت بالسيطرة عليها، وجرى ويجري استعراضها في ممرّات العالم المائية. وإذا ما أشار بيان وكالات الاستخبارات الأميركية إلى أنّ الهجمات السيبرانية لم تفرّق بين “صالح وطالح”، فإنّ إيران قد تعوّل على إدارة وقد تتوجّس من أخرى في البيت الأبيض.
بالنسبة لإيران، تمثّل مرشّحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، امتداداً لإدارة جو بايدن الذي فاوضها. وهي إدارة متناسلة من إدارة باراك أوباما الذي أبرم معها اتفاق فينا النووي عام 2015. وعلى ذلك فإنّ قلب طهران ربّما يخفق لهاريس ويعوّل على فوزها. غير أنّ في طهران من يراقب بحبور وزهوّ تطوّر برنامج البلاد النووي، ويتأمّل تقارير غربية تحذّر، عن واقع أو افتراء، من اقتراب إيران من صناعة قنبلة نووية. وفي طهران من يقرّ بأنّ “نعيم” الجبروت هذا لم يكن ليرى النور لولا “بركات” الجمهوري دونالد ترامب.
قصّة ترامب مع إيران
كان غريباً أن يهتمّ تاجر عقارات أثناء حملته الانتخابية عام 2016 بهجاء الاتفاق النووي مع إيران والوعد بتدميره، خصوصاً أنّ هذه القضية ليست في بال الناخبين الأميركيين وليست جاذبة لأصواتهم. ثمّ لم تُعرف عن ترامب الذي هبط على السياسة من بوّابات البزنس أهواء أيديولوجية تجعله عدوّاً لإيران وثوريّتها وشيعيّتها. فلماذا يعادي الرجل جهد سنوات بذلتها إدارات واشنطن؟ ولماذا يخاصم نظاماً قدّم للجمهوري جورج بوش جونيور خدمات بدون رفّة رمش لمصلحة حربَيه لاحتلال أفغانستان والعراق انتقاماً لـ “غزوة” بن لادن في 11 أيلول 2001؟
إذا ما مالت التحليلات باتّجاه ترجيح تفضيل طهران لكامالا هاريس رئيسة للولايات المتحدة، فإنّ نجاح ترامب قد لا يكون خبراً سيّئاً
لا يهمّ. أخرج ترامب بلاده من الاتفاق النووي عام 2018. كانت حينها إيران مقيّدة بنسبة تخصيب لليورانيوم لا تتعدّى 3.67 في المئة. تباهى الرجل وما يزال بإنجازه. فكان أن صارت إيران، بشكل علني وفي حضرة الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، تخصّب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة. كان مفتّشو الوكالة قد وجدوا في آذار 2023 آثاراً لعمليات تخصيب وصلت إلى نسبة 83.7 في المئة في منشأة فوردو. وحتى ندرك “أفضال” ترامب في هذا الصدد، فإنّ صناعة قنبلة نووية تحتاج إلى نسبة تخصيب تصل إلى 90 في المئة فقط لا غير.
أدخل ترامب، عمداً أو عجزاً، إيران إلى نادي الدول المسلّحة نوويّاً وبقي عمليّاً الإعلان عن التجربة النووية الأولى. فإذا ما مالت التحليلات باتّجاه ترجيح تفضيل طهران لكامالا هاريس رئيسة للولايات المتحدة، فإنّ نجاح ترامب قد لا يكون خبراً سيّئاً. والمفارقة أنّ أوباما غضّ النظر عن ملفّات في العالم والشرق الأوسط تورّطت بها إيران وسهّل خدمات سياسية لها إكراماً لمفاوضات اتّفاقه النووي، غير أنّ ترامب “الغاضب” من إيران و”المتبرّم” من الاتفاق معها، سكت عن إسقاط صواريخ إيرانية لمسيّرة أميركية فوق مياه الخليج، في حزيران 2019، هي الأغلى في العالم وأيقونة التكنولوجيا العالمية، وأدار الظهر حين استهدفت صواريخ إيرانية الصنع منشآت نفط أرامكو في الظهران في السعودية.
أدخل ترامب، عمداً أو عجزاً، إيران إلى نادي الدول المسلّحة نوويّاً وبقي عمليّاً الإعلان عن التجربة النووية الأولى
حتى حين أصدر أمراً باغتيال قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد في كانون الثاني 2020، ابتلع، على عكس ما يدّعي، ردّاً إيرانياً استهدف القوات الأميركية في قاعدة عين الأسد في العراق تسبّب في إصابة 100 جنديّ، وفق ما أكّد لـ”أساس” ديفيد شينكر، الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشّرق الأدنى في إدارة ترامب آنذاك.
إقرأ أيضاً: هل تعلّمت إيران من تجربة الاتحاد السوفياتي؟
تستعدّ إيران للتعامل مع كلّ خيارات الناخبين الأميركيين. تلوّح دون كلل بمواهب الشراكة في نزع فتائل في الشرق الأوسط ساهمت في زرعها من جهة، و”هُندست” بحنكة وخبث إخراج الإصلاحي مسعود بزشكيان من الصفوف الخلفية والدفع به مُنتخباً لمنصب رئاسة الجمهورية من جهة أخرى. وفيما يردّد حلفاء الوليّ الفقيه في صنعاء مقولة “الموت لأميركا”، يحمل بزشكيان في جعبته، التي أتت به رئيساً، التبشير بالانفتاح على الغرب والاتفاق مع أميركا، أيّاً كان رئيسها.
لمتابعة الكاتب على X: