حيث يصبح التّفكير والعمل السّياسيّ مستحيلاً!

2024-09-03

حيث يصبح التّفكير والعمل السّياسيّ مستحيلاً!

ما كان الوضع السياسي جيّداً أو منتظماً في دول الشرق الأوسط العربية طوال عقدٍ وأكثر. لكن طرأت ظروف مستجدّة تجعل الأوضاع أكثر استعصاءً على الاستيعاب، كما تجعل التدبير السياسيَّ الداخليَّ بالغ الصعوبة. والأوضاع المستجدّة هي: الانقسام الدولي بحيث يتعذّر إنفاذ القرارات الدولية بشأن الدول بالمنطقة، وتفاقم الانقسامات السياسية الداخلية التي ما عاد “تدبيرها” ممكناً بسبب التدخّلات الخارجية، وتفاقم الصعوبات الاقتصادية التي يتعذّر معها صون مصالح المواطنين وحقوقهم الأساسية، أم أنّ الحروب والنزاعات تجعل السياسة خارج الاعتبار لأنّ السياسة تنتهي عندما تبدأ الحرب؟

 

يقول الماوردي الذي عملتُ على مؤلّفاته كثيراً: الشريعة هي ما أدّى الفرض، والسياسة هي ما عَمَرَ الأرض. ويقول ابن عقيل الحنبلي: السياسة هي تدبير الأمر بحيث تصبح حياة الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. فبحسب هذه الرؤى الكلاسيكية يُعنى العمل السياسي بعمارة الأرض، وتدبير الشأن العامّ بحيث يصير الناس إلى صلاح الحال أو العيش. لكنّ الفقهاء الكلاسيكيين لا يكتفون بهذه المهمّات للإدارة السياسية. بل يضيف الماوردي إلى ذلك في كتابه “أدب الدنيا والدين” بعد عمارة الأرض، وصلاح العيش، وسلطان الكفاية والعدل، ما يسمّيه: الأمل المتّسع بسبب الازدهار العامّ!

هل هي “المدينة الفاضلة” تلك التي يتحدّث عنها الفلاسفة والفقهاء؟ لا ليست كذلك، بل هم يعتبرون هذه المواصفات لسياسات الدولة وعملها شروطاً لتحقيق الشرعية. أمّا المدينة اليوتوبية أو الفاضلة فهي مدينة أو دولة السعادة، وهو طموح أفلاطونيّ كبير ما تحقّق عبر التاريخ على الرغم من بقائه في حيّز الأمل أو الإمكان.

جرى الاصطلاح بعد الحرب الثانية على اعتبار “الدولة القومية” في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية عماد النظام الدولي الجديد

نظام العالم الجديد

لقد مضى على العالم بعد الحرب الثانية زمانٌ حقّقت فيه الدولة الليبرالية الديمقراطية (الغربية) تفوّقاً عمليّاً وأخلاقياً دار حوله صراعٌ كبيرٌ في حقبة الحرب الباردة. كان شعاره الرفاه والحرّية حتى إذا سقط المحور الشيوعي قيل إنّ نظام العالم الجديد أو مدينته الفاضلة قد اكتملت شروطها. وسواء أكان ذلك حقّاً أو وهماً بسبب ازدياد الخلاف في الغرب عليه. فلا شكّ أنّ العالمين العربي والإسلامي عانيا وما يزالان يعانيان أسوأ الظروف. سواء بمقاييس التدبير السياسي الإسلامي الكلاسيكي أو بمقاييس السلام والاستقرار في العالم الغربي المعاصر.

لقد جرى الاصطلاح بعد الحرب الثانية على اعتبار “الدولة القومية” في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية عماد النظام الدولي الجديد. وهي دولةٌ أو دول حقّقت استقلالها وانصرفت لبناء نظام المؤسّسات والتنمية الاجتماعية والاقتصادية ويسودها أحد نظامين أو مثالين: المثال الرأسمالي أو المثال الاشتراكي. بيد أنّ سقوط المثال الاشتراكي أعطى الغلبة للنموذج الآخر، نموذج نظام السوق الذي ساد ويسود في العالم الغربي. لكن بعد مُضيّ حوالى العقود الأربعة على الحالة الجديدة ما نجح في تخطّي عقبات السوق وتدبيرات السياسات غير نماذج قليلة لكنها بارزة مثل الصين والهند، انتزعت شراكةً مع نظام السوق. وهناك دولٌ أخرى هي في حالةٍ متوسّطةٍ بين النجاح والكفاح، ومنها بعض الدول العربية والإسلامية. في حين هناك فريقٌ ثالثٌ، وهو الأكثر عدداً، سقط في وهدة عدم الاستقرار والانقسام.

ما كان الوضع السياسي جيّداً أو منتظماً في دول الشرق الأوسط العربية طوال عقدٍ وأكثر. لكن طرأت ظروف مستجدّة تجعل الأوضاع أكثر استعصاءً

الدّول الوطنيّة

لقد سمَّى علماء السياسة الدوليون دول الفريق الثالث: دولاً وطنية. وهم يعيدون الأدواء التي نزلت بها إلى نوع وشكل التدبير السياسي الذي يجعل “أحوال الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”. إنّ دول الاضطراب هذه بحسب الاستراتيجيين الدوليين تحكّمت بها ثلاثة أمراض: سوء الإدارة السياسية، والتدخّلات الإقليمية والدولية، والعجز عن تحقيق مقتضيات التقدّم في التعليم والصحّة وشروط التنمية الأخرى التي وضعتها المفوضيات والوكالات الدولية التابعة للأُمم المتحدة. وغنيٌّ عن البيان أنّ هناك خبراء اقتصاديين كباراً لا يوافقون على كلام الاستراتيجيين السالفي الذكر. ويؤكّدون أنّ ما نزل بهذه البلدان الوسطى والصغرى علّتُه هيمنة أيديولوجيات وعمليات السوق العالمي في زمن العولمة السائدة.

بحسب هؤلاء وأولئك تمرّ بلدان الشرق الأوسط وجوارها الآن (ومعظمها عربي) في مرحلةٍ جديدةٍ وحاسمة. تستصحب سلبيّات حقبة هيمنة السوق، وتضيف إلى ذلك سلبيات جديدة يصعُبُ تخطّيها: تصدُّع النظام الدولي وشيوع الانقسام بين دوله الكبرى والوسطى، وغرق الأنظمة وإدارات الدول في صعوبات اقتصادية يبدو أن لا مخرج منها. وشيوع الأيديولوجيات والتصرّفات الراديكالية التي تزيد من شرذمة المجتمعات وصعود نزعات ونزاعات الانقسام والتقسيم.

من مظاهر التصدّع في النظام الدولي والتي تنعكس سلباً على الاستقرار الإقليمي: الحرب الروسية الأوكرانية، وعودة الحرب على فلسطين للاشتعال، وإقبال دول الجوار على المزيد من التدخّل في الدول الضعيفة التماسك ومنها لبنان وسورية واليمن وليبيا والسودان، وعجز الحكومات القائمة عن مواجهة التعثّرات الاقتصادية، وقصور المبادرات الدولية والإقليمية والوطنية والمحلّية أو غيابها.

إذا سقط المحور الشيوعي قيل إنّ نظام العالم الجديد أو مدينته الفاضلة قد اكتملت شروطها

لكي لا نسرف في التشاؤم وإنّما نشير إلى التحدّيات نذكر ثلاث حالات: السودان وليبيا ولبنان. ففي السودان عمد نظام البشير في مطالع القرن الواحد والعشرين إلى اصطناع ميليشيا (عربية) في دارفور أكبر أقاليم البلاد بعد الجنوب الذي انفصل، للمساعدة على إخماد التمرّد من جانب “حركات التحرير” هناك. وعندما انقلب نظام البشير أو جيشه على نفسه، وأظهر إرادته العودة إلى الترتيب المدني. ما استغنى عن ميليشيا دارفور المُدانة دولياً، بل أشركها معه في الإدارة الجديدة، ثمّ انقلب معها على المدنيين، وأخيراً خاض حرباً معها ما تزال مستمرّة منذ حوالى عام شهد السودان خلالها تهجير عشرة ملايين، ومقتل خمسين ألفاً وتدخّل كلّ دول الجوار إمّا مع الجيش أو مع الدعم السريع، وما أفادت الوساطات (منصّة جدّة، ومؤتمرات مصر وجنيف وأديس أبابا.. إلخ).

العالم

ولنذهب إلى ليبيا التي ما عرفت رئيساً منذ سقوط نظام القذّافي عام 2011. وفيها إلى اليوم حكومتان وجيشان، وصراع على النفط وعلى البنك المركزي. وتستعصي الوساطات والمبادرات والمؤتمرات على العدّ، والروس والأميركيون والأتراك والأوروبيون موجودون مع هذا الطرف أو ذاك. والميليشيات المسلَّحة تكاد تكون سائدةً في طرابلس وغرب ليبيا.

لقد مضى على العالم بعد الحرب الثانية زمانٌ حقّقت فيه الدولة الليبرالية الديمقراطية تفوّقاً عمليّاً وأخلاقياً

وللإيجاز بشأن لبنان، يمثّل خطابا نبيه بري وسمير جعجع الأخيران حالة الانقسام السائدة ليس في الواقع فقط، بل وفي التصوّر أيضاً. ففي حين يرى المسيحيون وكثير من اللبنانيين من الطوائف الأخرى أنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس للجمهورية. بعد عامين من الفراغ في سدّة الرئاسة، والعودة إلى القرار الدولي رقم 1701 لإعادة السلام إلى الجنوب، يرى الثنائي الشيعي أنّ انتخاب الرئيس لا بدّ أن يسبقه حوار بين الأطراف في مجلس النواب. كما أنّه لا شأن للّبنانيين الآخرين بالحرب الدائرة في جنوب لبنان والتي قرّر الحزب خوضها بمفرده لمساندة حماس في غزة. وفي الشكل لا انقسام في الجيش والحكومة والمؤسّسات في لبنان بخلاف السودان وليبيا. لكنّ داء التنظيم المسلَّح في البلدين العربيَّين حاضر بقوّة في لبنان وبشكلٍ أسوأ. ففي الأصل الميليشيات هناك لديها مصالح محلّية وصراعات على السلطة الداخلية، وأمّا في لبنان فليست للحزب مصالح داخلية متمايزة. بل هو تابعٌ في قراراته الحربية للحرس الثوري الإيراني.

نستطيع بالطبع أن نتأمّل في أوضاع مشابهة في سورية واليمن… والعراق، حيث لا أمل حاضر ولا مستقبل منظور.

الأمل الذي لا شفاء منه

يبقى سؤالان أو مسألتان من أجلهما كتبنا هذ المقال الطويل والعريض: الحروب وعدم الاستقرار هما ظاهرتان متفاقمتان وكيف يمكن الخروج منهما في الدول دولةً دولة، وفي المنطقة؟ والمسألة التي جاءت في عنوان المقال: ما هو التدبير السياسي، الذي من المفروض أنّ الدول هي التي تتولّاه، والذي يمكن السير فيه وسط هذه الظروف التي تجعل الحليم حيران، كما في القول العربي المأثور؟

الواضح من مسار الحروب والنزاعات الداخلية أنّه ما عاد يمكن إدارتها محلّياً، وبخاصّةٍ بعدما تدخّلت فيها أطراف دولية وإقليمية. وصحيح أنّ معظمها فيه قرارات دولية ومنها مسألة غزة أو مأساتها. بيد أنّ هذا الطرف أو ذاك من الخارج القريب أو البعيد هو المتحكّم أو هناك أطراف تتصارع بلا حسْم باتّجاه الاستقرار والوحدة في أيّ بلد.

 يمثّل خطابا نبيه بري وسمير جعجع الأخيران حالة الانقسام السائدة ليس في الواقع فقط، بل وفي التصوّر أيضاً

هل نحتاج بعد هذا كلّه إلى الحديث عن التدبير السياسي الأفضل؟ التدبير السياسي القديم والحديث يفترض قدرة النظام على التحرّك والعمل بحيث يصبح شأن الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. إنّما منذ زمن وحيث كان التدبير الداخلي ممكناً ما حدث ذلك، بل ربّما حدث العكس. أمّا في الزمن الجديد فما عاد الأمر السياسي أو الاستراتيجي بيد أحدٍ بالداخل، والخارج على مهله أو على مهل مصالحه وقدراته وأهدافه، لأنّ السياسة تنتهي عندما تبدأ الحرب.

إقرأ أيضاً: تهمة التّخلّف وتجربة الدّولة الوطنيّة!

فماذا يبقى لنا، سواء أكنّا مسؤولين أو مواطنين عاديّين؟ يبقى الأمل الذي لا شفاء منه بالاستقرار والسلام:

فهيهات هيهات العقيقُ ومَنْ به

وهيهات خِلٌّ بالعقيق نواصِلُهْ

 

لمتابعة الكاتب على X:

@RidwanAlsayyid

مواضيع ذات صلة

هل طوي ملف الصفقة؟

بالتأكيد طوي الملف، أولاً بفعل الخوف الأمريكي من فشلٍ جديد في الأسابيع المتبقية على الانتخابات، وثانياً بفعل عدم التوصل إلى صيغة أكثر توازناً من سابقاتها،…

ما لم يواجهه الحزب من قبل

كان لافتاً غياب الأمين العامّ للحزب عن أربعين القيادي فؤاد شكر. تُركت منصّة الخطابة لرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. الخطابان اللذان ألقاهما…

بزشكيان والعراق: تراجع تكتيكيّ للميدان الكردي.. لمصلحة السّياسة

هل سلّم الميدان الإيراني بحقيقة أنّه غير قادر على إدارة الموقف الإيراني بمفرده؟ وأنّه انطلاقاً من رؤيته الحصرية للأمور، حان الوقت لتقاسم أو توزيع الأدوار…

غزّة: ناخب أساسيّ في الأردن.. ومهمّ في أميركا

تقدّمت جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات النيابية الأردنية على كلّ قوائم الأحزاب التي شاركت في انتخابات البرلمان العشرين. وإلى جانب اعتبارات تنظيمية، تميّزت بها الجبهة…