لم يحدث في تاريخ الدولة الإيرانية منذ انتصار الثورة وإقامة النظام الإسلامي أن تمّ الحديث بشكل علني وبهذا الوضوح عن دور المرشد الأعلى المباشر في تشكيل الحكومة وتركيبة السلطة التنفيذية… فلماذا اضطرّ إلى التدخّل بهذا الشكل؟
على الرغم من حدّة الصراعات وكثرة التحدّيات التي واجهت الدولة الإسلامية في بداية عمرها وفي ظلّ وجود المؤسّس الإمام الخميني، لم تخرج حدود تدخّل القائد والزعيم عن الأطر التي حدّدها الدستور لمنع أيّ انحراف عن الأهداف والأسس التي تتعارض مع مبادئ النظام الإسلامي. فهو لم يعترض على أيّ من أعضاء الحكومة الانتقالية التي شكّلها مهدي بازركان على الرغم من أنّها ضمّت في صفوفها غالبية القيادات القومية والليبرالية.
أمّا التدخّل المباشر فقد جاء بعد تفاقم الخلافات والصراعات بين المؤسّسة الدينية وحرس الثورة من جهة ورئيس الجمهورية أبي الحسن بني صدر من جهة أخرى. وبعد فشل كلّ محاولات التوصّل إلى حلول بين الطرفين والحدّ من تصاعد الخلافات، لجأ إلى استخدام صلاحيّاته الدينية من موقع الوليّ الفقيه، وأعلن سحب الشرعية الدينية عن بني صدر، كخطوة أولى، ثمّ تولّت السلطة التشريعية (البرلمان) تطبيق الآليات القانونية والدستورية لإزاحته وإعلان عدم أهليّته للاستمرار في موقع رئاسة الجمهورية.
إلا أنّ هذا الحرص من المؤسّس على التزام الأطر الدستورية في تطبيق صلاحياته الدستورية لم يعنِ عدم حصول استثناءات. وربّما الاستثناء الأبرز في هذا السياق، التدخّل المباشر في الخلاف الذي حصل بين رئيس الجمهورية المرشد الحالي السيد علي خامنئي ورئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي، بعدما حاول رئيس الجمهورية في بداية ولايته الثانية استبدال موسوي في رئاسة الوزراء وقيادة السلطة التنفيذية بعد انتخابات عام 1985. وحينها جاء تدخّل المؤسّس لمصلحة موسوي وفرض إبقائه في موقعه كرئيس للوزراء إلى حين إلغاء هذا الموقع بعد استفتاء عام 1989 حول تعديل الدستور. مهّدت التعديلات الطريق أمام انتقال خامنئي إلى موقع المرشد الأعلى بصلاحيات مطلقة، وانتخاب الشيخ هاشمي رفسنجاني لرئاسة الجمهورية بصلاحيات تنفيذية كاملة وتامّة.
بات الطريق مفتوحاً أمام بزشكيان للقيام بالخطوة الحاسمة وما قد تعنيه من مفاوضات مباشرة مع الجانب الأميركي حول الملفّ النووي بداية وأساساً
سيرة التّدخّلات… والتّراجعات
فتح هذا التحوّل مع تولّي خامنئي موقع القيادة الباب أمام الحديث في الكواليس السياسية والإعلامية والاجتماعية عن تقاسم بينه وبين الرئيس رفسنجاني، بحيث أخذ الأخير هامشاً كبيراً في تركيب فريقه الاقتصادي وإعادة الإعمار، في حين تفرّد المرشد في ترتيب المواقع السياسية والثقافية في وزارة الخارجية والإرشاد، بالإضافة إلى تكريس حصريّته المتعلّقة بالمواقع العسكرية والأمنيّة باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلّحة، الأمر الذي وضع مؤسّسات الجيش وحرس الثورة وقوى الأمن الداخلي والعامّ والاستخبارات تحت إشرافه مباشرة.
احتفظ المرشد بموقعه التوجيهي وتمسّك بمبدأ عدم التدخّل المباشر، الذي كان موضع تفاهم غير معلن مع رؤساء الجمهورية. إلا أنّ هذا الدور انسحب على عهد الرئيس محمد خاتمي أيضاً، وعلى الرؤساء الذين جاؤوا من بعده كمحمود أحمدي نجاد وحسن روحاني وإبراهيم رئيسي، مع اختلاف في مستوى التدخّل، الذي كان يرتفع في حال كان الرئيس ممثّلاً لتوجّه سياسي لا ينسجم مع التوجّه المحافظ الذي يحظى بتأييد ودعم المرشد، ويتراجع مع الرئيس الممثّل لهذا التوجّه، مع الاحتفاظ بحقّ التدخّل في حال حصول أيّ انحراف كما حصل مع أحمدي نجاد في السنتين الأخيرتين من رئاسته الثانية.
المتطرّفون خاضوا معركة كبيرة
بعد حادث مقتل رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي الذي لا تزال أسبابه يعتريها الكثير من الغموض والإبهام، دخلت إيران معركة انتخابية مبكرة وقاسية، خاصة في ظلّ وجود مرشّح يمثّل القوى الإصلاحية في مواجهة 5 مرشّحين يمثّلون أطياف التيّار والقوى المحافظة التقليدية والمتطرّفة. وكانت الأخيرة تخطّط وتطمح إلى استمرارها على رأس مؤسّسة الدولة وعدم السماح بحصول أيّ تغيير في موازين القوى لمصلحة المعارضة.
بعد حادث مقتل رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي الذي لا تزال أسبابه يعتريها الكثير من الغموض والإبهام، دخلت إيران معركة انتخابية مبكرة وقاسية
شهدنا هجوماً شرساً قامت به الجماعات المتطرّفة دعماً لمرشّحها سعيد جليلي واستخدامها جميع الوسائل لمنع فوز المرشّح الخصم مسعود بزشكيان. إلا أنّ فوز الأخير شكّل ضربة قاسية لهذه الجماعات التي بدأت تشعر بتراجع قدرتها على البقاء في دائرة القرار والنفوذ، وأنّ جميع جهودها لفرض النتيجة التي تريدها قد اصطدمت بجدار صلب. وهو ما صعّب عليها فهم ما يجري في كواليس القرار الاستراتيجي، إلى أن جاء كلام بزشكيان ليكشف السرّ وراء هذا التحوّل عندما قال بوضوح: “لولا وجود المرشد ودوره وموقفه لما كان من الممكن أن يخرج اسمي من صناديق الاقتراع وأفوز بالانتخابات”.
جاء هذا الكلام لبزشكيان بعد لقائه الأوّل مع المرشد إثر إعلان النتائج، ولم يقابل بأيّ ردّ فعل سلبي من فريق المرشد ومكتبه، وكان أوّل كلام واضح ومباشر عن حجم الدور الذي يمكن أن يقوم به المرشد في رسم الإطار العامّ للمشهد السياسي الإيراني الداخلي، فضلاً عن الخارجي، وأظهر أنّ خيارات المرشد في اللحظات المفصلية والمصيرية قد لا تكون منسجمة مع توجّهات ورغبات التيّار الموالي للسلطة والنظام.
الإجماع البرلماني على حكومة بزشكيان
هذا الموقف من بزشكيان والكلام الصريح عن دور وموقف المرشد دفعا المتشدّدين ومؤيّدي المرشّح سعيد جليلي لفتح النار عليه واتّهامه باستغلال موقع المرشد وتوظيف موقعه الإرشادي للتأثير على الرأي العامّ والمستويات السياسية المعارضة له، خاصة أنّ هذه القوى أعلنت أنّها لن تتخلّى عن المواجهة مع الرئيس الجديد والحكومة التي سيشكّلها، وأنّها ستستخدم سلاح البرلمان ومنح الثقة لإسقاط عدد من مرشّحيه لتولّي المناصب الوزارية.
احتفظ المرشد بموقعه التوجيهي وتمسّك بمبدأ عدم التدخّل المباشر، الذي كان موضع تفاهم غير معلن مع رؤساء الجمهورية
أمام هذه الحملة الشرسة التي خاضها الجناح المتشدّد، والتي ظهرت خلال المناقشات البرلمانية للوزراء، قام بزشكيان بخطوته الثانية والحاسمة التي كانت بمنزلة الضربة القاضية لجهود هذه الجماعة، عندما أعلن أمام النواب أنّ اختيار الوزراء تمّ بالتشاور والتوافق بينه وبين المرشد، وأنّ جميع المرشّحين للحكومة قد نالوا موافقة القائد، الأمر الذي أحبط المتشدّدين وحسم تردّد الكثير من المحافظين التقليديين. واستطاعت الحكومة عبور حاجز الثقة البرلمانية بكامل أعضائها في حادثة غير مسبوقة في تاريخ الوزارات الإيرانية.
كلام بزشكيان أمام البرلمان، وكما كان الحال في كلامه عن النتائج، لم يلقَ أيّ معارضة من المرشد أو مكتبه أو فريقه، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أنّ رهانات المرشد على دور الرئيس وحكومته الإنقاذية في هذه المرحلة الحسّاسة التي تمرّ بها إيران والنظام على المستويين الداخلي والخارجي، تتجاوز كلّ الخطوط الحمر التي قد تصدر عن القوى المحافظة، وخاصة المتطرّفة منها.
المرشد يحسم الخلاف
الموقف الحاسم للمرشد وإظهار عمق وحجم الرهانات التي يعقدها على هذه الحكومة ورئيسها، جاءا خلال اللقاء الأوّل الذي جمع الطرفين (المرشد والرئيس ومعه فريق عمله الوزاري والتنفيذي والسياسي)، عندما وجّه رسالة واضحة للقوى المعترضة على الحكومة التي وجّهت اتّهامات إلى بزشكيان باستثمار رصيد المرشد وحيثيّته وموقعيّته لتمرير ما يريده. وبدل أن ينفي أيّ دور له في تشكيل الحكومة واختيار الوزراء.
أعلن للمرّة الأولى في تاريخ علاقته كمرشد مع السلطة التنفيذية أنّ الرئيس “استشارني، وأنا أعرف البعض منهم أو قد وصلتني الموافقة على صلاحية البعض الآخر من الجهات الموثوقة، فأعلنت موافقتي عليهم، والبعض الآخر أكّد عليهم، وآخرون كثيرون لا أعرفهم، فقلت لا رأي لي فيهم، ومن الجيّد أنّه استطاع الاختيار وإقناع المجلس أيضاً، وهذا إنجاز كبير نشكر الله عليه. واليوم كلّ هؤلاء الوزراء محترمون، وأنتم أيّها الإخوة والأخوات أعزّاء قد نلتم ثقة رئيس الجمهورية. أنتم الآن القيادات المتقدّمة لهذا البلد، ومن واجب الجميع أن يدعمكم ويساعدكم إذا احتجتم للمساعدة، ونسعى إلى أن تكونوا موفّقين في أعمالكم”.
لم يحدث في تاريخ الدولة الإيرانية منذ انتصار الثورة وإقامة النظام الإسلامي أن تمّ الحديث بشكل علني وبهذا الوضوح عن دور المرشد
هذا الكلام للمرشد الذي شكّل صدمة للقوى المتطرّفة التي كانت تستعدّ لشحذ سكاكينها وإعداد العصيّ لعرقلة عمل الرئيس وحكومته، استُكمل بتسوية قد تقارب الضربة القاضية لهذه الجماعات. وذلك عندما استطاع الرئيس التوصّل إلى تسوية مع المرشد سمحت بتجاوز العقبة القانونية التي تسلّح بها البعض من داخل فريق الرئيس ومن المتطرّفين في التيار المحافظ ودفعت وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف للاستقالة من الموقع الذي أسنده إليه بزشكيان كمساعد ونائب له للشؤون الاستراتيجية. وهذه التسوية تمّت في اللحظات الأخيرة للّقاء بين المرشد والحكومة الجديدة، فسمحت بانضمام ظريف إلى هذا اللقاء في اللحظات الأخيرة وخلال تلاوة القرآن الكريم في البداية. وهو ما يفسّر بوضوح ما جاء في تغريدة ظريف واعتذاره عن “الوصول المتأخّر” لحضور هذا اللقاء.
إقرأ أيضاً: ظريف بين الاستقالة والإقالة
في هذه النقطة، يمكن القول إنّ بزشكيان استطاع بالتنسيق مع المرشد بناء فريق سياسي وتفاوضي متكامل يضمّ وزير الخارجية عباس عراقتشي الذي لعب دور كبير المفاوضين إلى جانب ظريف ومساعداً سياسياً له خلال الوزارة ما قبل الأخيرة. وبالتالي يكشف مدى جدّية بزشكيان في دفع ملفّ المفاوضات بكلّ ما يملك من قوّة وفرص واستغلال الضوء الأخضر الذي أضاءه المرشد عندما تحدّث بوضوح عن عدم وجود أيّ مانع لـ”التفاوض مع العدوّ حول موضوع محدّد”. وحين يقول “العدوّ”، فهو يقصد الولايات المتحدة الأميركية.
هكذا بات الطريق مفتوحاً أمام بزشكيان للقيام بالخطوة الحاسمة وما قد تعنيه من مفاوضات مباشرة مع الجانب الأميركي حول الملفّ النووي بداية وأساساً.