مُحزنٌ ومؤسفٌ مشهد الشاحنات في بلدة مَيْس الجبل، جنوب لبنان، وهي تنقل أثاث البيوت، وتفرغ مخازن أكبر أسواق الشريط الحدودي، سوق مَيْس، لتخرجها من “الأراضي المحرّرة” في عام 2000. مشهد يوازي في “رُعبه”، الذي بلا “توازن”، نكسة الخارجين من قطاع غزّة، ونكبة الذين لن يجدوا بيوتاً يعودون إليها في القطاع المُدمّر، وفي قرى قضاءي مرجعيون وبنت جبيل… فكيف، ولماذا هزمتنا إسرائيل؟
قد لا تكون الحكاية صحيحة عن آخر ملوك الأندلس الذي بكى على شرفة قصره في غرناطة، بعد تسليمها، فقالت له أمّه: “إبكِ كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال”.
لكنّها جملةٌ “حاضرة” في يوميّات عام 2024، حضوراً رمزياً، وحضوراً واقعياً. على الأقلّ لنا، نحن أبناء قرى الشريط الحدودي الذي ظلّ محتلّاً من 1978 إلى 2000. وها نحن نخسره مجدّداً في 2024.
و”الخسارة” عادةٌ مُجرَّبة ومضمونة في شرقنا:
– في عام 1948 هاجمت جيوش العرب الضعيفة مجموعة عصابات يهودية، ولم تخسر فقط المعركة، بل أيضاً مزيداً من الأراضي التي كانت غير محتلّة.
-وفي 1967 لم يخسر العرب المعركة مجدّداً وحسب، بل خسروا أيضاً أراضي جديدة تزيد ثلاثة أضعاف عمّا خسروه في 1948.
– أمّا في 1973، فقد كاد العرب يخسرون أيضاً حين احتلّت إسرائيل القنيطرة واستعادت الضفّة الشرقية من قناة السويس، لكن أخرجها بعد أيّام اتفاق وقف إطلاق النار، مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية عن خطّ الهدنة. ولم تخرج إسرائيل من سيناء إلا بعد توقيع معاهدة سلام مع مصر في 1979. فيما ظلّت تحتلّ الجولان إلى أن ضمّته في 2019 بموافقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ذهبت إسرائيل إلى الحرب موحّدة، وخلفها أحلاف لا تبدأ في المنطقة ومع بعض العرب، ولا تنتهي في أوروبا وأميركا وكندا
2023 – 2024: التّاريخ يعيد نفسه
في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، شنّت إيران هذه المرّة، عبر جيوشها، المؤلّفة من جنود عرب في المنطقة، حرباً جديدة على إسرائيل. بدأت في غزّة، وساندها الحزب من جنوب لبنان في 8 تشرين الأول، لتنضمّ لاحقاً ميليشيات إيرانية من العراق واليمن. وذلك ضمن “وحدة الساحات” الإيرانية في شرقنا العربي.
فماذا كانت النتيجة حتّى الآن؟
– دمّرت إسرائيل غزّة وأعادت احتلالها.
– أعادت إسرائيل تهجير كلّ أبناء قرى الشريط الحدودي في جنوب لبنان. ويقدّرون بأكثر من 100 ألف. وفرضت “منطقة عازلة” بقوّة سلاحها الجوّي. وهو ما فرض احتلالاً غير معلن، من الجوّ هذه المرّة.
– دمّرت إسرائيل ميناء الحديدة اليمني على البحر الأحمر. ودمّرت أميركا وبريطانيا مواقع في العاصمة صنعاء وفي مدينتَي صعدة وذمار وغيرهما.
– في سوريا والعراق شنّت القوات الأميركية على ميليشيات إيران هجماتٍ دفعت كتائب “حزب الله العراقي” إلى إصدار بيان استسلام في كانون الثاني 2024، أعلن فيه “خروجه” من “وحدة الساحات” بشكل غير مباشر. وكانت حجّته “عدم إحراج الحكومة العراقية”. وأوصى مقاتليه بـ”الدفاع السلبي مؤقّتاً”. في حين بقيت سوريا خارج المعركة.
مَيْس الجبل: 1978 – 2024
قبل أيّام، انتشر فيديو لرتل طويل من الشاحنات، امتلأت بالأثاث. بعضها منزلي، وبعضها من أكبر مستودعات الأثاث والأدوات الكهربائية والسجّاد وغيرها من الأدوات المنزلية في واحد من أكبر أسواق جنوب لبنان، والأرجح أكبر أسواق لبنان. وهو سوق يقصده الزبائن من بيروت ومدن الجنوب البعيدة عنه، ومن محافظاتٍ أخرى. وكان يُعدّ واحداً من علامات “الانتصار” الحقيقي لأنّه أقوى أعمدة اقتصاد “المناطق المحرّرة”. وها هو ينهار، ويتداعى، بعد عام من الحرب تقريباً.
هذا “الخروج”، وتلك الصورة، أعادا إلى كثيرين مشاهد من الذاكرة سمعناها أو رآها آباؤنا.
أعادت إسرائيل تهجير كلّ أبناء قرى الشريط الحدودي في جنوب لبنان. ويقدّرون بأكثر من 100 ألف. وفرضت “منطقة عازلة” بقوّة سلاحها الجوّي
حين خرج أجدادنا من تلك القرى في عام 1978، ما كانوا يعرفون أنّهم سيمضون ما بقي من أعمارهم “مهجّرين” بين بيروت وضواحيها وبين جهات الأرض الأربعة. كثيرون منهم لم يروا قراهم قبل أن يمضوا في رحلاتهم الأبدية. وعادوا في صناديق مقفلة إلى جبّاناتها. ومعظم أبناء جيل الثمانينيات والتسعينيات تعرّفوا إلى قراهم متأخّرين، في عشريناتهم أو مراهقاتهم. وما كادوا يعقدون أواصر الألفة، وينتهون من بناء بيوتهم، حتّى خرجوا منها مجدّداً.
يعرف أهالي الجنوب أنّنا نحن من أعلن الحرب هذه المرّة. تماماً كما فعلنا في 1948 و1967 و1973. نذهب إلى الحرب ونحن نظنّ ونؤمن أنّنا سنرمي إسرائيل في البحر. ونعود منها خائبين، لنقدّم المزيد من الأراضي ثمناً لـ”الحلم”. وهي أحلام مشروعة. لكنّنا نذهب إليها عُراةً، مُعدَمين، مُختلفين، مُتخلّفين، مُتقاتلين، مُتباعدين، كارهين لأخوتنا، وبعضنا حاقد على بعض أو غارق في دماء بعضنا الآخر، ورؤوسنا محشوّة بأوهام العَظَمة وبنداءات الغيب البعيد عن الواقع.
كيف ولماذا هزمتنا إسرائيل؟
هذه المرّة، كما في كلّ مرّة، علينا أن نسأل أنفسنا: كيف هزمونا؟ ولماذا انهزمنا؟
السوق الذي بُني من حوله بلدة يسكنها أكثر من 35 ألف جنوبي، في مَيْس الجبل، لماذا “انتهى”؟ ومن السبب؟
ولماذا كان على تجّار البلدة أن يأخذوا إذناً من إسرائيل ليخرجوا أرزاقهم لعلّها تنجو من الدمار؟ لماذا ارتضوا مهانة أن ترافقهم من فوق طائرات العدوّ، وعلى يسارهم قوات اليونيفيل المؤلّفة من 49 دولة أجنبية؟
أخبرنا الأمين العام للحزب أنّ شمال فلسطين المحتلّة فيه 132 مصنعاً إسرائيلياً، قيمتها الإجمالية 156 مليار دولار، أي 8 أضعاف حجم اقتصاد لبنان كلّه. فلماذا لم نبنِ مصنعاً واحداً في جنوب لبنان، طوال ربع قرن من التحرير (2000 – 2024).
الأندلس… غزّة.. مَيْس الجبل. كأنّنا نقيم في ذلك التاريخ، الذي نرفض أن نفارقه. كأنّنا ندمن الموت والخسارة، تحت ظلال الغَيْب، وأوهامه
مهجّرو مستوطنات شمال فلسطين يقيمون في شقق وفنادق محترمة. ويحصلون على رواتب مجزية من الدولة. الدولة القوية، التي بنت اقتصاداً عملاقاً حجمه 550 مليار دولار سنوياً. وهي واحدة من أفضل أسواق التكنولوجيا في العالم. هكذا هزمتنا. نحن الذين دمّرنا اقتصادنا، وأفلسنا مصارفنا، بالفساد وسيطرة شريعة الغاب وقانون السلاح والإفلات من العقاب.
ذهبت إسرائيل إلى الحرب موحّدة، وخلفها أحلاف لا تبدأ في المنطقة ومع بعض العرب، ولا تنتهي في أوروبا وأميركا وكندا…
عوارض الأندلس المُقيمة بيننا
فكيف ذهبت حماس والحزب إلى الحرب؟
ذهبت حماس وسط حرب أهلية تخوضها ضدّ بقيّة فلسطين والفلسطينيين. بينها وبين الآخرين بحور من الدماء. ذهبت بحلف مع الإسلام السياسي الذي يريد إسقاط أنظمة العرب من جهة، ومع الإسلام الخمينيّ الذي يحتلّ أجزاء من دول عربية في الجهة الأخرى.
ذهب الحزب بعد حرب أهلية طويلة مع بقيّة اللبنانيين، حدثت فيها اغتيالات واجتياحات و7 أيّار. وسط خلاف مع كلّ الدول العربية والغربية. وذهب بلا اقتصاد ولا وحدة وطنية. وقد ربّى أطناناً من الحقد عليه في كلّ البيئات السياسية والاجتماعية والطائفية. حتّى حليفه الأقرب انقلب عليه قبل الحرب بلحظات سياسية قليلة.
استفرد الإسرائيليون بغزة حين خسرت الضفة الغربية وخسرت حركة فتح وخسرت الفلسطينيين. ظنّت حماس أنّها تستطيع ادّعاء النبوّة والألوهة، لأنّها ترفع المصاحف بوجه إخوانها.
مُحزنٌ ومؤسفٌ مشهد الشاحنات في بلدة مَيْس الجبل، جنوب لبنان وهي تنقل أثاث البيوت وتفرغ مخازن أكبر أسواق الشريط الحدودي
واستفردوا بغزّة حين خسرت إخوانها العرب أيضاً بسبب انحيازها لخصومهم.
واستفردوا بجنوب لبنان بعدما استكبر على بقيّة البلاد، وحارب شركاءه، وأبى أن يشاركهم الحكم والسلطة. وبعدما تصوّر أنّه يمكنه أن يحتلّ سوريا واليمن والعراق. فبات ظهره مكشوفاً أمام العدوّ.
خسرت غزة نفسها قبل أن يأتي العدوّ ليمحوها.
وخسر جنوب لبنان روحه، قبل أن يأتي الغزاة ليدمّروه.
إقرأ أيضاً: هل أعلن “السّيّد” انسحاباً أوّليّاً من جنوب الليطاني؟
كأنّنا أمام الأندلس، على اختلاف القياس وضعف التشبيه، تلك البلاد التي خسرت روحها ونفسها حين انقسمت بين ملوك الطوائف وملأتها الدسائس والضغائن، والإسراف والفساد، والحروب على السلطة والجاه.
الأندلس… غزّة.. مَيْس الجبل. كأنّنا نقيم في ذلك التاريخ، الذي نرفض أن نفارقه. كأنّنا ندمن الموت والخسارة، تحت ظلال الغَيْب، وأوهامه.
لمتابعة الكاتب على X: