بينما تتّجه الأنظار إلى الحرب الإسرائيلية ضدّ غزة ولبنان وتتفاقم المخاوف من حرب أوسع نطاقاً تشمل إيران والولايات المتحدة الأميركية، تبرز القوقاز وآسيا الوسطى كساحة معركة في حرب باردة جديدة بين إسرائيل وإيران. ففي هذه المنطقة أيضاً، كما في الشرق الأوسط، يتنافس الطرفان على النفوذ بشراسة، بحسب دراسة لأربعة باحثين من كلّية جونز هوبكنز الأميركية للدراسات الدولية المتقدّمة، وهم: أنطوني دي لوكا-باراتا، ويليام إيريك إليسون، جوزيف شنايدر مالامود ومولي شارفمان.
نشرت الدراسة في مجلّة “ناشيونال إنترست”، التي تركّز على قضايا الدفاع والأمن القومي والشؤون العسكرية والأجهزة والسياسة الخارجية والسياسة الأميركية. وتصدر عن مركز National Interest، الذي أسّسه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في عام 1994. وهي تربط بين “الحرب الإيرانية الإسرائيلية بالوكالة في الشرق الأوسط من غزة ولبنان إلى سوريا واليمن، وانخراط الجانبين في الحرب الروسية الأوكرانية، وبين الحرب الباردة المستمرّة بين الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة والكتلة الأوراسية بقيادة الصين وروسيا وإيران”. إذ تدور أيضاً حرب باردة إسرائيلية إيرانية عبر القوقاز وآسيا الوسطى، وتحاول كلّ من إسرائيل وإيران عبر استغلال التغيّرات الجيوسياسية توسيع موطئ أقدامهما في هذه المناطق المحورية. فعملت الأولى على ترسيخ شراكتها مع أذربيجان وبناء روابط جديدة مع دول آسيا الوسطى، في حين عملت الثانية على توسيع العلاقات مع أرمينيا وتعزيز موقفها في آسيا الوسطى.
بحسب الدراسة بدأ يتآكل النفوذ الروسي في هذه المناطق. فقد عملت أرمينيا وجورجيا وأذربيجان على تنويع سياساتها الخارجية والاقتصادية
على الرغم من إفلاتها من سيطرة موسكو المباشرة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، لا تزال روسيا تنظر إلى دول القوقاز وآسيا الوسطى باعتبارها أجزاء لا تتجزّأ من “الجوار القريب”، وتحافظ على علاقات سياسية واقتصادية ودبلوماسية وثيقة معها، وتحتفظ بقواعد عسكرية في أرمينيا وجورجيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان.
تآكل نفوذ روسيا
لكن بحسب الدراسة بدأ يتآكل النفوذ الروسي في هذه المناطق. فقد عملت أرمينيا وجورجيا وأذربيجان على تنويع سياساتها الخارجية والاقتصادية. ويرجع ذلك جزئياً إلى حذرها من عدوان روسيا على أوكرانيا. وعزّزت جورجيا علاقاتها مع أوروبا والصين، واقتربت أرمينيا من إيران، وانجرفت أذربيجان نحو تركيا. وتعمل إيران على تطوير الطرق عبر أرمينيا وجورجيا، سعياً إلى بناء روابط قويّة بين إيران وموانئ جورجيا على البحر الأسود. كما قامت كلّ من أرمينيا وجورجيا بتطوير علاقاتهما مع السعودية.
وفقاً للدراسة، فإنّ دول آسيا الوسطى بدأت أيضاً الابتعاد عن موسكو. فلم تدعم أيّ دولة غزوها لأوكرانيا. ولم تعترف أيّ دولة بما يسمّى الجمهوريات الشعبية في دونيتسك ولوغانسك، والتزمت جميعها بالعقوبات الغربية ضدّ روسيا.
في تشرين الأوّل 2022، ألغت قيرغيزستان التدريبات العسكرية لمنظّمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا التي كان من المقرّر إجراؤها على أراضيها. وبدأت كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان التركيز على المشاريع غير الروسية، وخاصة منظمة الدول التركية بقيادة تركيا.
وفقاً للدراسة، فإنّ دول آسيا الوسطى بدأت أيضاً الابتعاد عن موسكو. فلم تدعم أيّ دولة غزوها لأوكرانيا
أذربيجان شريك إسرائيليّ مهمّ
مع تآكل التفوّق الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى وتعميق العلاقات بين إيران وروسيا، رصدت إسرائيل فرصة لتوسيع موطئ قدمها وتعزيز الشراكات القائمة لمواجهة المحور الروسيّ الإيراني في هذه المنطقة. وتعدّ أذربيجان شريكاً مهمّاً لها بشكل خاصّ بسبب موقعها على الحدود الشمالية لإيران.
في عام 2016، أصبح بنيامين نتنياهو أوّل رئيس وزراء إسرائيلي يزور كازاخستان. في كانون الأوّل 2022، استضافت وزارة الخارجية الإسرائيلية مسؤولين حكوميين من الدول الخمس في آسيا الوسطى في جولة في إسرائيل تركّز على الدفاع. ويقال إنّ أذربيجان سمحت لإسرائيل باستخدام قواعدها لإطلاق رحلات استطلاعية إلى المجال الجوّي الإيراني، علاوة على إرسال عملاء استخبارات إلى إيران لتقويض البرنامج النووي لطهران.
من المرجّح، بحسب الدراسة، “أن تمرّ أيّ ضربات إسرائيلية مستقبلية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية عبر أذربيجان. وفي الوقت نفسه، تلقّت أذربيجان بين عامَي 2016 و2020 نسبة 69% من مدخلات الأسلحة الرئيسية من إسرائيل، وهو ما يمثّل 17% من إجمالي صادرات إسرائيل من الأسلحة خلال تلك السنوات. كما تستورد إسرائيل 30% من نفطها من أذربيجان. واستخدمت باكو أسلحة إسرائيلية في صراعاتها الدورية مع أرمينيا بشأن إقليم ناغورنو كاراباخ. وكدليل على العلاقات المزدهرة بين تل أبيب وباكو، افتتحت الأخيرة سفارة في إسرائيل في آذار 2023”.
في عام 2016، أصبح بنيامين نتنياهو أوّل رئيس وزراء إسرائيلي يزور كازاخستان
وفقاً للدراسة، “لا يبدو أنّ جهود إسرائيل لتعزيز علاقتها بأذربيجان قد تضرّرت بشكل كبير بسبب الشراكة الاستراتيجية المزدهرة بين أذربيجان وتركيا، على الرغم من دعم الأخيرة لحماس في أعقاب الهجمات الإرهابية في 7 أكتوبر. فقد أثبتت قوّة المصلحة المشتركة بين إسرائيل وباكو في مواجهة العدوان الإيراني حتى الآن أنّها مرنة بما يكفي لعدم الإصابة بعدوى العداء التركي الشديد لإسرائيل. ومع ذلك، قد تثبت العلاقة التركية الأذربيجانية في النهاية أنّها سقف يحدّ من مدى قوّة العلاقات الأذربيجانية الإسرائيلية. وهو ما يسلّط الضوء على الأهمّية المستمرّة للحلفاء التقليديين، مثل الولايات المتحدة، بالنسبة لإسرائيل التي لم تسعَ إلى توسيع العلاقات مع أرمينيا، المنافس التاريخي لأذربيجان، على الرغم من أوجه التشابه بينهما كدولتين صغيرتين محاصرتين تواجهان تهديدات وجودية من أعداء أكبر”.
آسيا الوسطى… وميناء إيران
ليست إعادة التنظيم الجيوسياسي الرئيسي بالمهمّة السهلة، كما تعتبر الدراسة. “فقد دفع الحذر من نفوذ إيران في آسيا الوسطى إسرائيل إلى زيادة نشاطها في تلك المنطقة أيضاً. فإيران تتمتّع بحضور اقتصادي راسخ في آسيا الوسطى: مع عدم وجود منفذ إلى البحر، تعتمد دول آسيا الوسطى على ميناء بندر عباس الإيراني لتوصيل الكثير من الوقود الأحفوري إلى السوق. ومع ذلك، فإنّ دول آسيا الوسطى حذرة من مخطّطات طهران الإقليمية، وخاصة رعايتها للجماعات الإسلامية المتطرّفة. بعد سقوط كابول، عاصمة أفغانستان، في أيدي طالبان في عام 2021، أدّى تجدّد احتمال عبور المقاتلين الجهاديين إلى آسيا الوسطى عبر الحدود الأفغانية إلى تضخيم المخاوف بشأن الإرهاب الإسلامي.. ويعتبر تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، الذي ارتبط هجومه في آذار في موسكو بمواقع الجماعة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، بالمخابرات الأميركية، أحدث مثال على انتشار الإرهاب الإسلامي المتطرّف انطلاقاً من هذه المنطقة”.
مع احتدام الصراع في الشرق الأوسط واستمرار الحرب الباردة الجديدة الأوسع نطاقاً، توصي الدراسة المراقبين أن يركّزوا على القوقاز وآسيا الوسطى
بينما تتنافس إسرائيل وإيران على النفوذ عبر القوقاز وآسيا الوسطى، تعمل تركيا، كما تصفها الدراسة، كبطاقة جيوسياسية برّية، تتحرّك ذهاباً وإياباً بين الكتلتين الغربية والأوراسية. فعلى الرغم من تصريح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ أوكرانيا “تستحقّ عضويّة الناتو” ودعمه انضمام السويد إلى الناتو بعد تأخير طويل، تقاربت المواقف الإيرانية والروسية والتركية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ 7 أكتوبر. فتركيا تستضيف قادة حماس، وتدعو إلى وقف إطلاق النار الذي من شأنه أن يضرّ بإسرائيل، ويوقف التجارة معها، حتى إنّها اقترحت نشر قوات عسكرية ضدّ إسرائيل. وعلى هذا النحو، وعلى الرغم من أنّ تركيا تشكّل دولة متأرجحة جيوسياسية في سياق الصدام الأكبر بين الكتلتين الغربية والأوراسية، فإنّها تتصرّف على نحو متزايد كخصم تجاه إسرائيل في ركنها من أوراسيا.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وأخطاؤها الخمسة.. الطريق نحو الهاوية
مع احتدام الصراع في الشرق الأوسط واستمرار الحرب الباردة الجديدة الأوسع نطاقاً، توصي الدراسة المراقبين أن يركّزوا على القوقاز وآسيا الوسطى. فإلى جانب مواصلة إيران بقيادة المرشد الأعلى خامنئي سعيها إلى السيطرة على الشرق الأوسط وتسهيل تدمير إسرائيل، فإنّ طموحاتها ستستمرّ في الامتداد إلى المناطق المتاخمة، بما في ذلك القوقاز وآسيا الوسطى. بينما في المقابل ستستمرّ القوّة العسكرية الإسرائيلية، التي من المحتمل أن تدعمها الولايات المتحدة بدرجات متفاوتة، في معارضتها. والواقع أنّ المعركة من أجل “قلب الأرض”، في آسيا الوسطى، قد بدأت للتوّ.
لقراءة المقال بلغته الأصلية اضغط هنا