السيسي في أنقرة: اعتراف تركي بهزيمة الإسلام السياسي؟

مدة القراءة 6 د

سرّبت صحافة تركيا أنباء عن عزم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القيام بزيارة تركيا في أوائل أيلول المقبل. وبين ما هو تطبيليّ في استشراف ما سيحمله الحدث “التاريخي” (وفق الوصف المعتمد)، وما هو عقلاني يقيس الممكن والمستحيل، تتيح المناسبة فتح نقاش بشأن طبيعة العلاقات بين أنقرة والقاهرة. وما يمكن أن تكون عليه وما يحول عمليّاً دون بلوغها السقوف العالية. يكفي فقط التذكّر والتذكير بأنّ تدهوراً كان طرأ في علاقات البلدين بقرار تركيّ وأنّ سياق التطبيع الحالي جاء أيضاً بقرار تركي.

حتى في عزّ القطيعة بين تركيا ومصر وذهاب أنقرة علناً إلى دعم واحتضان “جماعة الإخوان المسلمين” وشنّ حملات تركيّة وإخوانية من تركيا ضدّ مصر بقيادة الرئيس السيسي، ظلّت مصر منسجمة مع نفسها في الإعداد لمرحلة تعود فيها تركيا إلى رشدها ووعيها وتراجع نفسها. كانت الأيديولوجية قد هبطت فجأة على أنقرة وباتت تقود السياسة الخارجية لحكومة حزب “العدالة والتنمية” بوعاءين:

– وعاء ديني شعبوي يعوَّل عليه لتوفير سطوة تركية على مناخ إسلاموي في المنطقة.

– ووعاء “نيوعثماني” لم يوارِ طموحات إمبراطوريّة سلطانيّة تعود إلى عهود عثمانية بائدة.

سرّبت صحافة تركيا أنباء عن عزم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القيام بزيارة تركيا في أوائل أيلول المقبل

تغيّر في المزاج العام الحاكم

لم تأتِ استفاقة تركيا على المنطقة، كلّ المنطقة، بناء على تطوّر في الاستراتيجيات التاريخية للدولة على منوال التغيّر الذي طرأ على استراتيجيات الولايات المتحدة في الاستفاقة على الخطر الصيني ومنابعه الآسيوية. ولم يحصل الأمر نتاج جدل داخل الحزب الحاكم وتغيّر نصوصه على النحو الذي طرأ تدريجياً على الحزب الشيوعي الصيني بعد وفاة ماوتسي تونغ عام 1976. تغيّرت تركيا تجاه دول المنطقة بناء على تغيّر في المزاج العامّ الحاكم متناسل من تغيّر مزاج الحاكم نفسه.

سقط خيار الإسلام السياسي. تمّت هزيمته، فترنّح ولم يعد بإمكانه أن يكون رافعة “وحيدة” لطموحات تركيا. ما زال ذراعاً من أذرع السياسة الخارجية، لكنّه لم يعد أساسيّاً في مقاربات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في نسج علاقاته مع دول المنطقة. ولئن نضجت في تركيا ثمار التحوّل باتجاه استراتيجية “تصفير” المشاكل التي كانت عزيزة على قلب من كان يعتبر منظّر “العدالة والتنمية”، أحمد داوود أوغلو، فإنّ دول المنطقة، بعد مخاض عسير وموجع مع تركيا، بدت جاهزة لإعادة وصل ما انقطع.

قمّة العُلا التأسيسية

أسّست قمّة العلا الخليجية في كانون الثاني 2021 لانعطافة طالت كلّ المنطقة. طوى الخليجيون صفحة “أزمة قطر”، وراحت المنطقة تطوي أزماتها مع تركيا ثمّ إيران. جرى التطبيع سريعاً (نسبياً) بين تركيا والسعودية والإمارات وأكثر بطءاً مع إيران. وكان واضحاً أنّ ما بين مصر وتركيا يحتاج إلى علاجات معقّدة طويلة الأمد. أقفلت أنقرة ملفّ “الإخوان” وأنهت ورشتها لإسقاط نظام القاهرة. وكان على أنقرة أيضاً أن تعيد مراجعة أجنداتها في بلدان (لا سيّما في ليبيا) هي جزء بنيوي تاريخي من فضاء مصر الاستراتيجي أيّاً كان حاكم مصر وحاكم تركيا.

أسّست قمّة العلا الخليجية في كانون الثاني 2021 لانعطافة طالت كلّ المنطقة. طوى الخليجيون صفحة “أزمة قطر”، وراحت المنطقة تطوي أزماتها مع تركيا ثمّ إيران

سيزور السيسي تركيا بعد زيارة قام بها إردوغان لمصر في شباط الماضي. وفيما يعوّل المتفائلون والرغبويّون على مصالحة كاملة الأوصاف تنهي سنوات الهجر وتجعلها رماداً، فإنّ أفضل ما يمكن أن تصل إليه العلاقات أن تكون “عاديّة”. فمصالح مصر تختلف عن مصالح تركيا، تماماً كما هي مصالح ألمانيا مختلفة عن مصالح فرنسا حتى لو يجمعهما اتحاد أوروبي هو نتاج مشروعهما وإرادتهما. فإذا ما “أبدعت” رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، في الردح ضدّ فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون لخلاف بين البلدين داخل “أوروبا الموحّدة”، فسيكون على مصر وتركيا تعلّم إدارة خلافاتهما حتى لو استدعى ذلك عتباً وردحاً واتفاقاً.

تقارب يغيّر الشرق الأوسط؟

تمثّل تركيا ومصر معاً ثقلاً ديمغرافياً وجيوستراتيجياً بإمكانه بالمستويات الطوباويّة تغيير مشهد الشرق الأوسط. لتركيا تاريخها ومكانتها وقوّتها الاقتصادية وامتداداتها القوقازيّة والأوروبية والأطلسيّة. وتمثّل مصر فضاء جيوستراتيجياً وعبقاً تاريخياً قديماً وموقعاً وامتدادات داخل الفضاءات العربية والإسلامية والإفريقية. وإذا ما جمعت حقبة تاريخية مصر بالدولة العثمانية بما لتلك الحقبة وما عليها، غير أنّ تلك المشتركات لم تكن يوماً عامل وحدة موقف ومصير بين البلدين.

حين قرّر مزاج السياسة القطيعة بدا للمفارقة أنّ البلدين يتعاملان مع المرحلة بصفتها “نزوة” مؤقّتة محكوماً عليها بالزوال. بدا أنّ أهل “البزنس” غير مبالين بترّهات ما يصدر عن قصور السلطة فاستمرّت تبادلات التجارة والاقتصاد في العبور. يصل حجم النشاط الاقتصادي بين البلدين حالياً إلى 10 مليارات دولار سنوياً، والأمل معقود على رفع هذا الحجم إلى 15 ملياراً. وإذا ما صمد الاقتصاد أمام السياسة في موسم الجفاء فإنّ التعويل على ازدهاره منطقي في موسم الودّ والوفاق. غير أنّ ألغام هذا العالم قد تبقى عائقاً دون رفع مستوى التوقّعات.

لتركيا أجندات واضحة في ليبيا والسودان وإفريقيا وشرق المتوسّط. اجتازت أنقرة مياه المتوسّط لترسم حدود البحر مع حكومة طرابلس في ليبيا وتكون عوناً ومدداً لقوّاتها ضدّ تشكّلات السياسة والسلطة في بنغازي. ولتركيا أجندات في السودان تبدو متزاحمة مع مروحة معقّدة من المتدخّلين الإقليميين والدوليين. بالمقابل تراقب القاهرة فضاءاتها الحدودية وتسعى إلى الحفاظ على حقوق تفرضها ضرائب الجغرافيا مع بلدان الجوار.

تمثّل تركيا ومصر معاً ثقلاً ديمغرافياً وجيوستراتيجياً بإمكانه بالمستويات الطوباويّة تغيير مشهد الشرق الأوسط

تركيا تسلّح مصر؟

يهمّ تركيا أن تبيع مسيّراتها لمصر وتبرم عقود تسلّح ودفاع معها. ويهمّ مصر أن تجد في تركيا ما يعزّز خططها في الدفاع والتنمية والطاقة. كانت القاهرة قد أعدّت منذ سنوات للحظة المصالحة مع تركيا. فحين رسّمت حدودها البحرية مع اليونان كانت حريصة (مع أثينا) على عدم الاقتراب من حدود مائية متنازع عليها قريبة من شواطئ تركيا. لم تفُت أنقرة حينها حصافة البلدين، وهو ما يفسّر التحسّن الذي طرأ هذه الأيام على علاقات تركيا باليونان وتلك التي تتحقّق منذ أشهر مع مصر.

إقرأ أيضاً: “العدالة والتّنمية” التّركيّ بعد 23 عاماً: “من وين لوين؟”

في موسم التحوّلات التاريخية المقبلة على المنطقة، من مصلحة القاهرة وأنقرة الاهتداء إلى أوراق مشتركة تقوّي نفوذهما وحصّتهما داخل منطقة يُعاد رسم قواعد اللعبة فيها. لمصر وتركيا علاقات متشعّبة معقّدة مع إسرائيل وإيران كما مع روسيا والصين والمنظومة الغربية. صحيح أنّ حكاية البلدين منفصلة ومختلفة مع تلك الدول والمناطق، غير أنّ للبلدين معاً مصلحة حقيقية في حسن إدارة اللعبة والاستفادة من حركيّتها. قد يكون ذلك مبكراً وصعباً لا يظهر نقيضه في قمّة أيلول في تركيا التي من المرجّح أن تكون نسخة مكمّلة بتأنٍّ لقمّة الزعيمين في القاهرة قبل 7 أشهر.

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…