تهمة التّخلّف وتجربة الدّولة الوطنيّة!

مدة القراءة 6 د

منذ القرن التاسع عشر اتّهم المفكّرون الاستعماريون “العقلية” العربية الساميّة بالجمود، ولحقت التهمة بالإسلام باعتباره ظالماً للمرأة ومغرماً بالحرب المقدّسة. بعد الاستقلال تساقطت الإدارات المدنية للدول الوطنية وسيطر العسكريون الذين لم ينجحوا في الحروب ولا في التنمية. ومع ظهور ميليشيات حاكمة في عدّة دول عادت الاتّهامات للعقل العربي بالقصور وحالة العجز عن بناء الدولة.

 

ما كان الانحطاط ضربة لازم، لكنّ أيديولوجيّي الاستعمار رأوه كذلك. ومنذ مطالع القرن التاسع عشر بدأ كثيرون من المفكّرين والسياسيين في أوروبا، وهم يقبلون على استعمار أقطار الدولة العثمانية، يتحدّثون عن الانحطاط الذي أصله العقلية الساميّة الجامدة والمحدودة. والتحق بذلك الإسلام الذي يمتلك أصولاً وعقائد جامدة تحول دون التقدّم.

منذ القرن التاسع عشر اتّهم المفكّرون الاستعماريون “العقلية” العربية الساميّة بالجمود، ولحقت التهمة بالإسلام باعتباره ظالماً للمرأة ومغرماً بالحرب المقدّسة

حصلت انفراجات في التاريخ الفكري والثقافي عندما جرت ترجمة العلوم والفلسفة الإغريقية. فلمّا اشتدّت عليها الحملات من جانب المحافظين المتشدّدين دخل عالم العرب والإسلام في انحطاطٍ بلغ ألف عام. ولأوروبا المتقدّمة مهمّتان:

– مهمّة الاستيلاء على أقطار العرب والمسلمين،

– أمّا المهمّة الثانية المرتبطة بالأولى فهي تنحية علل ومعوّقات التخلّف، ونشر التمدّن والحضارة، وهي الرسالة التي تمتلكها أوروبا باتجاه المسلمين واتجاه العالم.

الإشكالية أنّ معتبرين من رجالات العرب والإسلام منذ القرن التاسع عشر اعتنقوا هاتين المقولتين: الانحطاط وضرورة أوروبا للتقدّم، جزئياً أو كلّياً. والمتفائلون منهم كانوا يقولون: نتعلّم منهم ثمّ نضع تجاربنا الخاصّة.

حصلت انفراجات في التاريخ الفكري والثقافي عندما جرت ترجمة العلوم والفلسفة الإغريقية

بيد أنّ الدول والكيانات عندما قامت على أثر انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، قلّدت أيضاً في الإنشاء والمؤسّسات التجربة الأوروبية باعتبارها أفضل التجارب الموجودة. إنّما حتى التجربة الأوروبية التي ادّعى المستعمرون أنّهم أتوا لإنجازها في الشرق، ما كانوا قابلين كمستعمرين أن يعمل بها وعليها أهل البلاد. فظهرت النخب الوطنية التي تناضل بالأساليب الأوروبية أو بالقتال من أجل الحرّية والاستقلال.

العقل الأمنيّ يتقدّم المشهد

لقد بدت تجربة الاستقلال بالنضال واعدة في سنواتها الأولى. لكنّ المستعمرين لم يغادروا، بل تواروا وبقيت مصالحهم. ثمّ إنّ النخب كانت مستعجلة ويسودُ بينها التنافس ولو مع الاستعانة بالمستعمرين السابقين. وحدثت المشكلات التي ما كانت الأنظمة الجديدة قادرةً على مواجهتها: قضية فلسطين بالمشرق العربي، والحرب الجزائرية في المغرب العربي. وبدلاً من مراجعة الأمور من أجل حلولٍ أو معالجات، أقبلت الجيوش الجديدة على هدم البنى الأوّلية التي كانت ما تزال قيد الإنشاء. والحجّة في ذلك: عجز الأنظمة عن مواجهة المشكلات الوطنية والقومية، وضرورة مواجهة المشكلات الداخلية والخارجية بالقوّة المسلَّحة وبالوسائل الأمنيّة.

عشرة انقلابات حصلت بالمشرق والمغرب بما في ذلك الجزائر المستقلّة حديثاً! وبالفعل خيضت حروب غلب عليها الفشل وما انحلّت أيٌّ من المشكلات. بل ازدادت وتفاقمت. وحصل في تجربة الدولة الوطنية (أو القومية؟) في العالم العربي ما لم يحصل في أيّ مكانٍ في العالم. يحصل حراك شعبي داخلي احتجاجيّ منفرد أو بتعاون خارجي، فتنشب نزاعات داخلية يسقط فيها عشرات الألوف، ويتهجّر مئات الألوف. ثمّ يتعب المتحاربون فتظلّ السلطة المركزية أو الجيش مسيطراً في قسم، والميليشيا أو الميليشيات في أقسام أخرى.

حرب غزّة امتحانٌ عسير لكنّه ليس الوحيد. فهناك قتال بالشراسة نفسها في السودان. وهناك انقسامات ومربّعات في سورية، وعشرات الميليشيات في العراق

بدأ ذلك في الصومال، وهذا “النظام” أو “اللانظام” سائد اليوم في سورية والعراق ولبنان وليبيا والسودان… وفلسطين، وهناك أنظمة عربية على الحافة بين النظام واللانظام.

لماذا حدث ذلك ويحدث في العالم العربي دون بقيّة أنحاء العالم؟ ففي أقطار آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية حدثت عشرات الانقلابات. لكن لم تتولّد ميليشيات باقية تشارك في السلطة أو الفوضى.

العجز العربيّ وفشل الدّولة الوطنيّة

يعيد البعض ذلك إلى أطماع العسكريين العرب وعدم احترافهم، فعندما يصلون إلى السلطة لا يكون وصولهم مؤقّتاً بل خالداً. وهناك من يذهب إلى أنّ العسكريين هؤلاء على الرغم من شدّة حرصهم على الاستقلال وعدم التبعية أدخلوا هذا المحور أو ذاك إلى الدولة لدعم نظامهم فكان ذلك بين أسباب التمرّد عليهم. وهناك فريقٌ من المؤرّخين ومحبّي التفسير بالتاريخ، عاد إلى تجارب القرنين التاسع عشر والعشرين حيث كان المستعمرون يتدخّلون بسببٍ وبدون سبب. وقد غزت أميركا أفغانستان والعراق، ومنذ عقود تستعمر إسرائيل فلسطين وتستوطن، وتدخّلت دول أخرى في عشرات الكيانات العربية والإفريقية المجاورة.

لذلك عاد أناس من الاستراتيجيين يتحدّثون عن العجز العربي، وفشل تجربة الدولة الوطنية في العالم العربي. وعادت الأسباب العقلية والحضارية والأصولية للبروز بحقٍّ وبدون حقّ. لقد صار الداء هو الدواء. فأميركا الغازية لأفغانستان والعراق هي التي تحاول وقف الحرب في ليبيا والسودان.. وفلسطين.

نحن لسنا مختلفين عن العالم لا في الفضائل ولا في الأمراض. وهكذا ليست دعوات العجز والتخلّف والأصوليّة صحيحةً ولا مرجّحة

نحن لسنا مختلفين عن العالم لا في الفضائل ولا في الأمراض. وهكذا ليست دعوات العجز والتخلّف والأصوليّة صحيحةً ولا مرجّحة. إنّما الذي لا شكّ فيه أنّ تجربة الدولة القومية أو الوطنية العربية قد فشلت لهشاشة البنى أو التدخّل الخارجي أو لسوء تنشئة الجيوش أو العوامل الثلاثة معاً. وهذه الأمور يمكن أن تحدث. إنّما كما سبق القول ليس بهذه الوتيرة وهذا التكرار. ثمّ إنّ الظروف الجيوسياسية في العالم صارت ضيّقة جدّاً ومحكمة الإغلاق. فالذي يسقط لن يهبّ أحدٌ لنجدته، بل يسارع كثيرون للدوس عليه وتفتيش جيوبه.

إقرأ أيضاً: روح قتاليّة عارمة… في صفوف شباب العرب؟

حرب غزّة امتحانٌ عسير لكنّه ليس الوحيد. فهناك قتال بالشراسة نفسها في السودان. وهناك انقسامات ومربّعات في سورية، وعشرات الميليشيات في العراق التي تموّلها الدولة، وكذلك الشأن في ليبيا. والدم نازلٌ وغزير. ويضرب الحزب وإسرائيل ويقول كلٌّ منهما إنّ هجوم الآخر فشل. ومعارضو الحرب لدى الطرفين متّهمون بالخيانة أو في الحدّ الأدنى بالجبن. إنّما لا أحد يعرف لماذا تستمرّ الحرب، ولا حجّة غير الدفاع لدى إسرائيل والكرامة لدى المقاومة.

لقد قلنا إنّ مقولة العجز والجمود وعدم القابلية للتحضّر والمدنية والتقدّم ليست صحيحة، لكن وأخيراً لماذا يحدث ذلك كلّه عندنا دون غيرنا؟ هو سؤال وليس حزّورة ويستحقّ أن نبحث له عن جواب.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@RidwanAlsayyid

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…