الهبة الجزائريّة “على طريق القدس”.. والإخوان المسلمين

مدة القراءة 7 د

لا ريب أنّ الهبة الجزائرية من الفيول أويل للبنان لإنقاذه من العتمة الشاملة، والمقدّرة بنحو 18 مليون دولار، هي خطوة محلّ احترام وتقدير واسعين في لبنان على الصعيدين الرسمي والشعبي. بيد أنّ قرار تقديم هذه الهبة ينبع بالدرجة الأولى من حسابات انتخابية للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الذي يسعى إلى الفوز بولاية ثانية من 5 سنوات في الانتخابات الرئاسية المقرّرة في 17 أيلول المقبل.

 

يتواجه تبون في الاستحقاق الرئاسي مع المرشّحين: يوسف أوشيش، مرشّح حزب “جبهة القوى الاشتراكية” واليسار المنقسم على ذاته، وعبد العالي حساني شريف، مرشّح “حركة مجتمع السلم” الإسلامية، أبرز التيّارات الإسلامية وأكثرها شعبية، التي تنتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين، وتُعرف بـ”حمس”، بما يجعل اسمها شديد التماثل مع حركة حماس.

تكتّل الإخوان المسلمين

يعبّر السياق الانتخابي برمّته عن استشعار الرئيس الجزائري وداعميه من النخب والدولة العميقة بخطر جدّي من ارتفاع شعبية الإخوان المسلمين على وقع الصعود الصاروخي لشعبية حركة حماس. فقد اتّخذ تبون في 31 آذار الماضي قراراً مباغتاً بتقديم موعد الانتخابات الرئاسية 3 أشهر، من أجل إرباك الأحزاب الإسلامية، والتأثير في قدرتها على تحشيد أصوات الناخبين.

بيد أنّ ذلك لم يجد له تأثيراً، إذ أعلنت حركة النهضة، أحد أعرق التنظيمات الإخوانية، تأييد مرشّح “حمس”. ومع أنّها ليست ذات ثقل انتخابي كبير، لكنّها تتمتّع برمزية اعتبارية مؤثّرة في الأوساط الشعبية، وخصوصاً رئيسها محمد ذويبي، وهو صاحب حضور إعلامي وسياسي بارز، ويعدّ من أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية، وكان ضمن سفينة “الحرّية” التي حاولت كسر الحصار عن قطاع غزة عام 2010.

في حوار مع قناة “الشروق” الجزائرية في 17 آب، قال ذويبي إنّ “دعم مرشّح “حمس” له اعتبارات سياسية وفكرية، حيث تنتمي النهضة و”حمس” إلى المدرسة الفكرية نفسها (الإخوان المسلمين) التي تنادي بالوسطية والاعتدال”. كما نقلت صحيفة “القدس العربي” عن مصادر مقرّبة من النهضة “إمكانية دخول الحركتين بقوائم موحّدة في الانتخابات التشريعية المقبلة”.

يعبّر السياق الانتخابي برمّته عن استشعار الرئيس الجزائري وداعميه من النخب والدولة العميقة بخطر جدّي من ارتفاع شعبية الإخوان المسلمين

تجدر الإشارة إلى أنّها ليست المرّة الأولى التي تتكتّل فيها أحزاب الإخوان المسلمين لخوض استحقاق انتخابي، حيث سبقتها تجربة مماثلة في الانتخابات التشريعية عام 2012، كان هدفها استثمار “الربيع العربي” وصعود نجم الإخوان المسلمين، فجرى تكوين تحالف “الجزائر الخضراء”، الذي ضمّ “حمس” و”النهضة” و”حركة الإصلاح”، لكنّه لم ينجح في الحصول على الأغلبية. وانبثق من “حركة الإصلاح” حزب “العدالة والتنمية” الذي يتزعّمه عبد الله جاب الله، مؤسّس “حركة النهضة”، ويعكس اسم الحزب نوعاً من مغازلة الوجدان الشعبي المتفاعل مع النموذج التركي.

التّجربة القاسية

تلك التجربة التي أربكت النخب السياسية تعدّ الثانية ضمن النماذج الإسلامية التي تسعى إلى استغلال التحوّلات الإقليمية للوصول إلى السلطة. فقد سبقتها تجربة أكثر شهرة، وهي “جبهة الإنقاذ الإسلامية”، التي حملت هويّة إسلامية راديكالية تأسّياً بموجة صعود التنظيمات الجهادية في ثمانينيات القرن الماضي، مع أنّها كانت عبارة عن خليط فكري من المدارس الإسلامية المختلفة، ففيها الإخوان المسلمين، والتيارات السلفية، و”جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” التي تعدّ امتداداً للحركة الإصلاحية التي قادها الإمام عبد الرحمن بن باديس، والتيّار الذي يمثّل التراث الفكري الإسلامي للمفكّر الجزائري مالك بن نبي.

تبون

نادت “جبهة الإنقاذ” بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتعهّدت بتقديم بديل إسلامي كامل لجميع مشكلات البلاد. وأفادت من الانتفاضة الشعبية التي اندلعت بسبب الفقر والبطالة والفساد في 5 تشرين الأول 1988، للفوز بالانتخابات المحلّية في حزيران عام 1990، التي حصلت فيها على 853 بلدية من أصل 1,539، و32 مجلس ولاية من أصل 48. وفي انتخابات مجلس الشعب في كانون الأول 1991، حصدت “الإنقاذ” 188 مقعداً من أصل 288 ضمن الجولة الأولى، فيما عدد المقاعد الإجمالية 380. في حين حصد الحزب الحاكم “جبهة التحرير الوطنية” 16 مقعداً فقط.

تبون نجح في تثبيت الاستقرار واحتواء الانتفاضة الشعبية إلى حدّ كبير من خلال محاكمة بعض رموز العهد السابق بتهم الفساد، إلا أنّه لا يزال يواجه تحدّيات

تدخّل الجيش مدعوماً من النخب الجزائرية التي خشيت تغيير الإرث الثقافي والتاريخي للدولة وهويّتها المدنية، وعلّق العملية السياسية معلناً حالة الطوارئ، فردّت الجبهة بتأسيس “جيش الإنقاذ الإسلامي” عام 1993، ودخلت مع الجيش في صراع دمويّ عرف بـ”العشريّة الحمراء” التي أودت بحياة قرابة ربع مليون جزائري.

تكمن أهمّية استرجاع تلك الحقبة في الوقوف على مدى تأثير الخطاب الإسلامي في أوساط الطبقات الشعبية، وذلك من أجل فهم أعمق لدوافع وخلفيّات النزعة الإسلامية المستجدّة في خطاب الرئيس عبد المجيد تبون، ومركزية القضية الفلسطينية فيه. إذ يسعى الأخير مع النخب السياسية الحاكمة والدولة العميقة إلى احتواء الهبّة الإسلامية لا مواجهتها، ولا سيما أنّها تتشابه مع تجربة “جبهة الإنقاذ” في كونها مسبوقة بانتفاضة شعبية تعكس تبرّم شرائح واسعة من السلطة، واحتمالية ميلها إلى التصويت العقابيّ.

الخطاب الإسلاميّ

في 24 أيار أُعلن تأسيس “ائتلاف أحزاب الأغلبية من أجل الجزائر”، الذي يضمّ 4 أحزاب تسيطر على 243 مقعداً برلمانياً من أصل 407، من أجل تحقيق قاعدة دعم برلماني وسياسي واسعة للسلطة والرئيس تبون، والسعي إلى تحفيز الجزائريين على المشاركة في الاقتراع، بعدما سجّلت الانتخابات الرئاسية 2019، والتشريعية 2021، أدنى النسب في تاريخ الجزائر. ويصبّ في الإطار نفسه ترشيح يوسف أوشيش غير البعيد عن دوائر السلطة، كممثّل لليسار، وذلك لضمان أوسع مشروعية للانتخابات، وزيادة نسب الاقتراع في الأوساط الشبابية (أصغر مرشّح للانتخابات الرئاسية يبلغ من العمر 41 عاماً)، وفي منطقة القبائل، لكونه من مدينة “تيزي أوزو” أبرز المناطق القبائلية، وكان رئيساً للمجلس الشعبي فيها وممثّلاً عنها في البرلمان.

مع انطلاق الحملات الانتخابية، ركّز تبون في خطبه الانتخابية على البعدين العربي والإسلامي، وعلى توظيف القضية الفلسطينية

قام الرئيس تبون أواخر شباط الماضي بافتتاح مسجد الجزائر، الذي يعدّ ثالث أكبر مسجد بالعالم بعد الحرمين الشريفين، بمساحة تبلغ 200 ألف متر مربّع، وتصل سعته الإجمالية إلى 120 ألف مصلٍّ، ويضمّ داراً للقرآن ومراكز بحثية ومكتبة تحوي مليون كتاب. في خطبة الجمعة الأولى، ركّز الخطيب على أهمّية هذا الصرح المعماري، وأنّه “إنجاز يسجّل لجيل الاستقلال، وعلامة على تمسّك الجزائر بدينها على الرغم من محاولات الاستعمار الفرنسي (1830 – 1962) طمسها”. وقد قامت السلطات الجزائرية بتخصيص حافلات لنقل المصلّين إلى المسجد.

مع انطلاق الحملات الانتخابية، ركّز تبون في خطبه الانتخابية على البعدين العربي والإسلامي، وعلى توظيف القضية الفلسطينية لما لها من تأثير تاريخي في الوجدان الجزائري. أثارت إحدى الخطب التي ألقاها في مدينة “قسطنطينة” ضجّة كبيرة على منصّات التواصل الاجتماعي، وداخل إسرائيل، بسبب العنوان الذي جرى تسويقه من قبل الإعلام الجزائري: “الجيش جاهز لدخول غزة بمجرّد فتح الحدود”. في حين أنّ تبون لم يكن يقصد إرسال الجيش للقتال، بل لـ”تشييد 3 مستشفيات في 20 يوماً، والمساعدة في بناء ما دمّره الصهاينة”.

إقرأ أيضاً: إيران “حامية السُّنّة”… ماذا عن سُنّة إيران؟

مع أنّ تبون نجح في تثبيت الاستقرار واحتواء الانتفاضة الشعبية إلى حدّ كبير من خلال محاكمة بعض رموز العهد السابق بتهم الفساد، إلا أنّه لا يزال يواجه تحدّيات اقتصادية واجتماعية داخلية، وجملة من المشاكل على صعيد السياسة الخارجية. لذلك هبة الفيول المقدّمة إلى لبنان تروم تحسين صورة الجزائر الخارجية في عيون الناخبين، والحؤول دون انفراد الإخوان المسلمين بـ”طريق القدس”. وهذا ما دفع بالجزائر للاعتراض على قيام لبنان باستبدال شحنة الفيول في عرض البحر بنوعية أخرى من الفيول المستخدم في محطات الكهرباء، لرغبتها في وصول الباخرة التي تحمل العلم الجزائري إلى الشاطئ اللبناني، لما لهذه الصورة من أهمّية انتخابية.

مواضيع ذات صلة

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…